عَلِيٌّ (عليه السَّلَام) يُقسِّم المال بالسَّويَّة...

مقالات وبحوث

عَلِيٌّ (عليه السَّلَام) يُقسِّم المال بالسَّويَّة...

7K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 31-12-2019

عمَّار حسن الخزاعيّ
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصَّلَاة والسَّلَام على خير خلقه مُحَمَّد وآله الطَّاهرين..
لقد بدأ الإسلام ضعيفًا بإمكانيَّاتٍ محدودة جدًّا إذا لم نقل معدومة، فكان المسلمون الأوائل لا يجدون الرغيف في بعض الأحيان نتيجة حصار قريش وأعوانها لهم؛ فضلًا عن الإمكانيات الأُخرى، وما يمضي الوقت حتَّى يُهاجر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنورة، وهناك يبدأ بتأسيس دولة الإسلام التي بدأت تكبر سريعًا حتَّى شملت المدينة كلَّها والحجاز، ثمَّ ازدادت رُقعتها لتصل إلى العراق وبلاد فارس ومصر والشام وهكذا، وهذا التوسَّع كان من نتائجه زيادة الواردات الماليَّة لحكومة المسلمين؛ نتيجة كثرة الخراج الوارد إليها من الولايات التابعة لها، وهنا بدأت الاطماع تنمو من لدن بعض المسلمين، وكأنَّ الله تعالى يريد أن يختبر ما قدَّموا من جهادٍ في سنواتهم العجاف، وإذا بهم يتركون سُنَّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في تقسيم الأموال بين النَّاس، ويبتدعون سُنَّةً جديدة أحدثها عمر بن الخطاب، فحواها تقسيم المال بحسب السبق للإسلام، فكان البدريُّ يأخذ نصيبًا أعلى من غيره، وهكذا الشجري، وهو من حضر بيعة الشجرة، ثمَّ قسَّم المجتمع على طبقاتٍ متعدِّدة في العطاء، وصار المسلمون على شكل مراتب في العطاء، فنشأت إثر ذلك الطبقيَّة التي أدَّت إلى أن يكون الفارق شاسعًا بين أفراد المجتمع في المستوى المعيشي، وصار بعض المسلمين أثرياء بحيث لا يمكن حساب ثرواتهم وأملاكهم كأمثال طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم، ويقابل ذلك فقر مدقع لمسلمين آخرين، ذنبهم أنَّ الإسلام وصل إليهم متأخرًا أو أنَّ الهداية جاءته متأخرة، أو لم يكن من المهاجرين والأنصار، ثمَّ استمرَّ الأمر هكذا إلى حكومة عثمان بن عفان، الذي ازداد الأمر سوءًا في حكومته، فهو لم يكتفِ بتقسيم عمر وإنَّما قرَّب أقرباءه وأسند لهم الوظائف، وجعل المال بينهم يفعلون به ما يشاؤون، وكانت نتيجة سياسته أن ثار المسلمون عليه فقتلوه في داره، ولمَّا آل الأمر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أعاد الأمر إلى ما كان عليه في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ورفض كلَّ أنواع الطبقيَّة التي أنشأها عمر، وصار المال يُقسَّم بين المسلمين بالسوية والعدل، ولم يكن لديه ميزان في ذلك سوى العدالة التي نصَّ عليها الإسلام وطبَّقها الرسول (صلى الله عليه وآله) في منهجه، وهذا الإجراء نفَّذه أمير المؤمنين (عليه السلام) في أوَّل تسنُّمه للسلطة، وقد أوضح منهجيَّته (عليه السلام) في ثاني يومٍ من تسلُّمه للحكومة؛ إذ صعد المنبر وخطب بالمسلمين، وبعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه وتكلَّم بفضله ((التفت (عليه السلام) يمينًا وشمالًا فقال: ألا لا يقولنَّ رجالٌ منكم غدًا قد غمرتهم الدنيا؛ فاتَّخذوا العقار وفجَّروا الأنهار وركبوا الخيول الفارهة، واتَّخذوا الوصائف الروقة فصار ذلك عليهم عارًا وشنارًا؛ إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون فينقمون ذلك، ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا . ألا وأيَّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرى أنَّ الفضل له على من سواه لصحبته؛ فإنَّ له الفضل النير غدا عند الله وثوابه وأجره على الله، وأيَّما رجل استجاب لله وللرسول فصدَّق ملَّتنا ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله والمال مال الله يقسم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غدًا أحسن الجزاء وأفضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجرًا ولا ثوابًا وما عند الله خير للأبرار))([1]) . وهكذا بيَّن أمير المؤمنين (عليه السلام) استراتيجيته الماليَّة منذ أوَّل تسلُّمه للسلطة، وكانت تنبني على المساواة في العطاء لكلِّ من اعتنق الإسلام، سواء أكان عربيًّا أم أعجميًّا، ثمَّ بعد ذلك قال للنَّاس: ((وإذا كان غدًا إن شاء الله فاغدوا علينا فأنَّ عندنا مالًا نقسمه فيكم، ولا يتخلفنَّ أحدٌ منكم عربي ولا عجمي؛ كان من أهل العطاء أو لم يكن إلا حضر، إذا كان مسلمًا حرًا . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم))([2]). ولمَّا كان اليوم التالي نادى أمير المؤمنين (عليه السلام) كاتبه عبيد الله بن أبي رافع وقال له: ((ابدأ بالمهاجرين فنادهم، واعط كلَّ رجلٍ ممَّن حضر ثلاثة دنانير، ثمَّ ثنِّ بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك، ومن يحضر من الناس كلهم، الأحمر والأسود فاصنع به مثل ذلك))([3]) . ومن هنا بدأ تنمُّر الطبقة المترفة من سياسة أمير المؤمنين (عليه السلام) الماليَّة، التي صاروا فيها سواسية مع كلِّ المسلمين بلا استثناء، ومن الشواهد التي تشير إلى هذه المسألة ما نُقل عن سهل بن حنيف (رضوان الله عليه) عندما جاء يأخذ عطاءه من أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: يا أمير المؤمنين، هذا غلامي بالأمس، وقد أعتقته اليوم، فقال: نعطيه كما نعطيك، فأعطى كل واحد منهما ثلاثة دنانير، ولم يفضل أحدًا على أحد))([4]) . فالصحابي سهل بن حنيف (رضوان الله عليه) تساوى مع غلامه الذي أعتقه بالأمس مع ماله من منزلة ودرجة بوصفه أحد رجالات معركة بدر . وهكذا بدأت المعارضة تظهر بسبب حطام الدُّنيا، فتخلَّف عن قسمة أمير المؤمنين (عليه السلام) لبيت المال ((طلحة، والزبير، وعبد الله بن عمر، وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم، ورجال من قريش وغيرها))([5]) . وصارت الأصوات تتعالى معترضةً على سياسة أمير المؤمنين (عليه السلام) الماليَّة، مطالبين بعودة الطبقيَّة التي جعلتهم أثرياء وأسيادًا على النَّاس، وممَّن كان على رأس أولئك طلحة والزبير اللذينِ صرَّحا بما في قلوبهما بعد أن سألهما أمير المؤمنين (عليه السلام) عن سبب معارضتهما له فقالا: ((خلافك عمر بن الخطاب في القسم، أنَّك جعلت حقنا في القسم كحق غيرنا، وسوَّيت بيننا وبين من لا يماثلنا فيما أفاء الله تعالى علينا بأسيافنا ورماحنا وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا، وظهرت عليه دعوتنا، وأخذناه قسرا قهرًا، ممَّن لا يرى الاسلام إلا كرها))([6])، فأجابهم أمير المؤمنين (عليه السلام): ((وأمَّا القسم والأسوة فإنَّ ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ بدء قد وجدت أنا وأنتما رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحكم بذلك وكتاب الله ناطق به، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وأما قولكما: جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا سواءً بيننا وبين غيرنا، فقديمًا سبق إلى الإسلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم فلم يفضلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في القسم ولا آثرهم بالسبق، والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم، وليس لكما والله عندي ولا لغير كما إلا هذا، أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق وألهمنا وإياكم الصبر. ثمَّ قال: رحم الله امرأً رأى حقًّا فأعان عليه، ورأى جورًا فرده، وكان عونا للحق على من خالفه))([7])، ثمَّ إنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) صرَّح رادًا على جميع المعترضين قائلًا: ((يا معشر المهاجرين والأنصار؛ أتمنُّون على اللَّه ورسوله بإسلامكم بل اللَّه يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين... ألا إنَّ هذه الدُّنيا الَّتي أصبحتم تتمنَّونها وترغبون فيها، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ليست بداركم ولا منزلكم الَّذي خلقتم له، فلا تغرّنَّكم فقد حذّرتموها واستتمّوا نعم اللَّه عليكم بالصّبر لأنفسكم على طاعة اللَّه والذّلّ لحكمه جلّ ثناؤه، فأمَّا هذا الفي، فليس لأحدٍ على أحد فيه اثرة، فقد فرغ اللَّه من قسمته فهو مال اللَّه وأنتم عباد اللَّه المسلمون، وهذا كتاب اللَّه به أقررنا وإليه أسلمنا وعهد نبيّنا بين أظهرنا، فمن لم يرض فليتولَّ كيف شاء، فإنَّ العامل بطاعة اللَّه والحاكم بحكم اللَّه لا وحشة عليه))([8]) . ومن هنا فإنَّ على الحكَّام والمسؤولين أن يتَّبعوا سياسة الحقِّ في توزيع الأموال بين الرعيَّة، وأن لا يأخذوا عناوين الجهاد حججًا لفرض الطبقيَّة بين النَّاس، فالجهاد والعبادة أجرها على الله تعالى ... وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين..
الهوامش:
([1]) بحار الأنوار: 32/17 .
([2]) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 7/37 ، بحار الأنوار: 32/17 – 18 .
([3]) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 7/37 – 38 .
([4]) وقعة الجمل، ضامن بن شدقم الحسيني المدني: 66
([5]) بحار الأنوار: 32/18 .
([6]) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 7/41 .
([7]) بحار الأنوار: 32/22 .
([8]) وقعة الجمل، ضامن بن شدقم الحسيني المدني: 70 .

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2563 Seconds