عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
عندما نبحث في المنظومة الفكرية لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) نجدُ أنَّها موسوعة لا قرار لها، عميقة عمق الكون، لا تنفد مضامينها مهما تتابع الزمن واستجدَّت الأحداث، فهي منظومة فكرية تتفاعل مع الزمان والمكان في كلِّ حين، ولا نبتعد عن الحقيقة لو قلنا أنَّ فيها لكلِّ حادثة حديث، ومن مميزاتها أنَّها متكاملة في رصدها للمسائل والظواهر، وعندما نبحث فيها عن مسألةٍ مهما كانت فإنَّنا سنجدها بكلِّ حيثياتها ومعطياتها الفكرية والمعنوية، وكلَّما غاص فيها المفكِّر وجد نفسه ما زال يطفو عند أوَّل سطحها وفي بداية جرفها، ومن هنا أنَّنا نراها خالدةً متجدِّدة تبعث الحياة في كلِّ زمن، يشيب الدَّهرُ على أطراف شبابها . وهذا الكلام ليس من وحي الخاطر أو نتيجة عاطفةٍ بلا دليل وإنَّما هو حقيقة يقينٍ سطَّرها قبل هذا العلماء والمفكِّرون على اختلاف مشاربهم الفكرية ومذاهبهم المعرفية، وسنحاول اليوم رصد عبادة الصِّيام في المنظومة الفكرية لأمير المؤمنين (عليه السلام) على وفق ما يسمح به المقام، وسنرى عبرها كيف احتوى (عليه السلام) هذه المسألة احتواءً متكاملًا من حيث الأسس والمضامين .
في البدء لا بدَّ من إعطاء معنىً للصِّيام على وفق المفهوم العام، وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ذلك بقوله: ((الصيام: اجتناب المحارم كما يمتنع الرجل من الطعام والشراب))([1])، فالصيام لابدَّ فيه من الامتناع عن الطعام والشراب بمفهومها الغريزي العام، وكذلك اجتناب المحارم والسيئات، وبذلك يتحقَّق شرط القبول عند الله تعالى .
ثمَّ يتسلسل أمير المؤمنين (عليه السلام) مع المكلَّف في طاعة الصيام فنراه يترقَّب قدوم الشهر الفضيل، ويرصد بدايته بمتابعة هلاله، وإذا ما ظهر هلاله فإنَّه يعطي توجيهه للمتلقِّي المسلم فيقول له: ((إِذَا رَأَيْتَ الْهِلَالَ فَلَا تَبْرَحْ وَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الشَّهْرِ، وَفَتْحَهُ، وَنُورَهُ، وَنَصْرَهُ، وَبَرَكَتَهُ، وَطَهُورَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَسْأَلُكَ خَيْرَ مَا فِيهِ وَخَيْرَ مَا بَعْدَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهُ . اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ، وَالْبَرَكَةِ، وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى))([2]) .
ثمَّ يسعى إلى تعريف المتلقي المسلم بالعلَّة التي من أجلها فُرض الصِّيام حتَّى يجعله على بيِّنةٍ من أمره ومن الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه في هذه العبادة فيقول له: ((فَرَضَ اللهُ... الصِّيَامَ ابْتِلاَءً لإخْلاَصِ الْخَلْقِ))([3]) . فالصيام أحد الاختبارات الإلهيَّة لقياس مدى إخلاص الخلق لربِّهم، وبذلك فإنَّ على المكلَّف أن يكون في أعلى درجات الإخلاص في هذا الشهر من أجل أن يحظى بالدَّرجة الرفيعة عند الله تعالى، ويكون صيامه خالصًا لله تعالى من دون أيِّ إشراكٍ لأيِّ أمرٍ كان؛ لأنَّ الصيام عبادة بين العبد والربِّ تعالى، ولا ينبغي أن يكون بينهم أو معهم أطرافًا أخرى، وفي هذا المعنى يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((الصومُ عبادةٌ بينَ العبدِ وخالقِه، لا يَطَّلِعُ عليها غيرُه، وكذلك لا يُجازي عنها غيرُه))([4]) . وإذا ما كان خلاف ذلك بأن كانت النيَّة غير خالصةٍ لله تعالى فإنَّ ذلك سيؤدِّي إلى نقصان الأجر أو الحرمان منه، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: ((كَمْ مِنْ صَائِم لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الظَّمَأُ، وَكَمْ مِنْ قَائِم لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ الْعَنَاءُ، حَبَّذَا نَوْمُ الأكْيَاسِ وَإِفْطَارُهُمْ))([5]) .
أمَّا الفوائد المترتبة عن الصِّيام فهي كثيرة جدًّا وسنشير إلى بعضها في هذه العجالة، ومن الفوائد التي أشار إليها أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّ الصيام نماءٌ وبركةٌ للجسد كما الزَّكاة التي هي نماءٌ للمال، وكلُّ من أراد لجسده أن ينمو صحيحًا سليمًا فعليه بالصِّيام، وهذا الأمر نجده في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((وَزَكَاةُ الْبَدَنِ الصِّيَامُ))([6])، وهناك فائدة أُخرى للصيام وهي الحماية الحصينة، بحيث يكون الصيام حصنًا للمكلَّف على المستوى الدُّنيوي بأن يساهم في تنميته الصحيَّة وزيادة المناعة لديه، وعلى المستوى الأُخروي يكون له حصنًا بامتناعه عن المحرَّمات والمعاصي، وهذا نجده في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((وَصَومُ شهر رمضان؛ فإنّه جُنّةٌ حصينة))([7]) .
وكلُّ أمرٍ لا بدَّ فيه من المرغبات التي تجعل الآخرين يُقبلون عليه بنهمٍ وإخلاص، والصيام كذلك عبادة تحتاج إلى بعض المرغبات حتَّى يُقبل عليها المكلَّف بدافعٍ نفسيٍّ عالٍ، ويتحقَّق بها درجة الإخلاص، وهذا الأمر لم يفت المنظومة العلويَّة فقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى هذا الأمر، ومن جملة قوله فيه: ((نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، ودعاؤه مستجاب، وعمله مضاعف، إن للصائم عند إفطاره دعوة لا ترد))([8])، وهل توجد مرغباتٍ أُخرى أعلى من هذه المرغبات؛ إذ الصائم في أجرٍ ما لم يكن في معصية الله تعالى، فضلًا عن نومه وصمته، فإذا أراد أن لا يعمل شيئًا ما خلا الواجبات واكتفى بالنوم والصمت متفكِّرًا في الله تعالى وآلائه كان له أجر ما دام على ذلك، وفي حال أنَّه تطوَّع لعملٍ عباديٍّ آخر في حال الصِّيام فإنَّ له أجرًا يختلف عمَّا لو كان في غير شهر رمضان، وذلك لأنَّ الأجر فيه سيكون مضاعفًا .
ثمَّ إنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يكشف أنواعًا للصِّيام تتعدَّى ما هو المعهود من صيام شهر رمضان أو الصيام المعتمد على الإمساك عن المفطِّرات المعروفة، وبذلك يوسِّع مدارك المتلقي المسلم، ويمنحه طرقًا أُخرى ليكون على صومٍ دائم وأجرٍ لا ينقطع، وكذلك يُعطي فرصًا كثيرة لمن حُرم من الصيام المعهود نتيجة مرض أو أيِّ عارضٍ آخر فإنَّ له أن يعمل بالأنواع الأُخرى من الصيام، ومن الأنواع التي ذكرها أمير المؤمنين (عليه السلام) للصيام صوم الجسد المعهود وقد أشار إليه بقوله: ((صَومُ الجسدِ: الإمساكُ عن الأغذية بإرادةٍ واختيار؛ خوفاً من العقاب، ورغبةً في الثواب والأجر))([9])، وأفضل من هذا الصيام في الأجر صيام اللسان بمنه وكفِّه عن الموبقات والآثام، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((صيامُ اللِّسانِ خيرٌ مِن صيامِ البطن))([10])، وخير من هذا الصيام في الأجر صيام البطن أيضًا صيام القلب بمنعه عن التفكِّر بالمعاصي والمحرمات، وإليه أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: ((صيامُ القلب عن الفِكرِ في الآثام أفضلُ من صيامِ البطنِ عن الطعام))([11])، وهناك صوم آخر وهو صوم النَّفس ويشرحه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: ((صَومُ النَّفْس إمساكُ الحواسِّ الخَمس عن سائر المَآثم، وخُلُوُّ القلب عن جميع أسبابِ الشرّ))([12])، وهذا الصوم أنفع أنواع الصِّيام بتعبير أمير المؤمنين (عليه السلام) في موضع آخر: ((صَومُ النَّفْس عن لَذّات الدُّنيا أنفَعُ الصيام))([13]) . وهذه الأنواع عدا الأوَّل منها يستطيع كلُّ مكلَّفٍ أداءها بيسرٍ وسهولةٍ من دون أن يجد أيَّ مانعٍ طبِّيٍّ أو غيره، وبهذا الوعي يمكن أن يكون المكلَّف في صيامٍ دائم وعلاقة متواصلة مع الله تعالى على وفق هذه العبادة من دون أن تكون مقيَّدةً بشهرٍ معيَّن، على أنَّه يجب الانتباه إلى خصوصيَّة شهر رمضان وفضله العميم الذي يستطيع المكلَّف فيه أداء كلِّ أنواع الصيام الأخرى من صيام البدن واللسان والقلب والنَّفس وغيرها، وتبقى له الحظوة الكبرى في الأجر الإلهي .
وما تقدَّم غيضٌ من فيض، ولو استمرينا لطال بنا المقام إلى صفحات وصفحات، وكلُّ ذلك من معين أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي لا ينضب، فيظهر ممَّا تقدَّم على إيجازه العمق المعرفي والسِّعة العلميَّة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في رصده للمسائل مهما كانت، وكيف أنَّه يحتوي المسألة بوعي شموليٍّ تأسيسي بحيث يُشعرك بغزارة المعلومة مما يضطرُّك إلى المتابعة بشغفٍ وشوق، وقد تقدَّم حديثه المتنوِّع عن الصيام وكيفيَّة نظرته الشموليَّة إليه.
الهوامش:
([1]) بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 93/294 .
([2]) الكافي، الشيخ الكليني (ت: 329 هـ): 4/76 .
([3]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 512 .
([4]) تصنيف نهج البلاغة، لبيب بيضون: 296 .
([5]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 495
([6]) المصدر نفسه: 494 .
([7]) تحف العقول عن آل الرسول، ابن شعبة الحراني: 149 .
([8]) ميزان الحكمة، محمد الريشهري: 2/1686 .
([9]) عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي: 305 .
([10]) المصدر نفسه: 305 .
([11]) المصدر نفسه: 302 .
([12]) المصدر نفسه: 305
([13]) المصدر نفسه: 302 .