الكوفة، مهمة إعلام ووخز سِبى

مقالات وبحوث

الكوفة، مهمة إعلام ووخز سِبى

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 31-08-2020

خُطَى الخُزَاعي

((إنَّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً... إنَّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا)) ([1]).
بهذه الكلمات أجاب المولى الحسين بن علي (صلوات الله عليهما) عن لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تساؤلات أخيه محمد بن الحنفية عن علة خروجه من المدينة أولًا، ثم اصطحابه النسوة والأطفال معه ثانيًا، قاطعًا بكلماته تلك كل محاولات ثنيه عن عزمه (صلوات الله عليه) في الخروج، مومئًا إلى أنَّ نهضته الإصلاحية أمر قد أعدَّته السماء بإخبار من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنَّ القتل والسبي مقومان لتلك النهضة الكبرى وأساسان في تحصيل نتائجها؛ فكان لزامًا أن يخرج وأهل بيته.
انتهى القتل على أبشع صور اللاإنسانية، بمقتلة مروعة زلزلت الأرض وأبكت السماء، لتأتي النوبة إلى سبي عقائل النبوة وذراري بيت الوحي -المقوِّم الثاني في الثورة الإصلاحية- بمشاهد تكرَّر فيه الانسلاخ الإنساني والتدني البشري برحلة شاقة وثّقتها بلاطات الأمصار وأزقة طرقاتها.
عند الكوفة أولى محطات السبي، تلك المدينة التي فاض النقل الشريف في بيان شأنها ومكانتها عند أهل البيت (صلوات الله عليهم) بوصفها محلًا محبوب التربة والشيعة، ومن ذلك ما جاء على لسان أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): ((هذه مدينتنا ومحلنا ومقر شيعتنا)) ([2])، وأيضًا قال متوعدًا من يريد بها سوءًا: ((كَأَنِّي بِكِ يَا كُوفَةُ تُمَدِّينَ مَدَّ الأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ، تُعْرَكِينَ بِالنَّوَازِلِ، وتُرْكَبِينَ بِالزَّلَازِلِ، وإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّه مَا أَرَادَ بِكِ جَبَّارٌ سُوءاً إِلَّا ابْتَلَاه اللَّه بِشَاغِلٍ ورَمَاه بِقَاتِلٍ)) ([3]).
وإنَّ تشيع أهل الكوفة لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ومناصرتهم له كان أمرًا معلومًا بوضوح، وكان من جملة الأسباب التي دعت أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أن يختارها مركزًا لحكومته، وللسبب ذاته جرت على الكوفة ما تنبأ به أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) من أنواع الرزايا والمصائب لتصدِّق بلاءات الكوفة المرويات الحاكية عن الارتباط بين التشيع والابتلاء كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((يا علي إنَّك مبتلى ومبتلىً بك))([4])، وقول الإمام الباقر لرجل حين قال له: ((والله إنِّي لأحبكم أهل البيت، قال: فاتخذ للبلاء جلبابًا، فو الله إنَّه لأسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي وبنا يبدأ البلاء ثم بكم)) ([5])، فلأهل الكوفة نصيب من كل ظلم ولهم مع كل طاغية حكاية، فهذا معاوية بن أبي سفيان ومتوارثي نهجه المشؤوم وسنته الذميمة قد تفنَّنوا في ترويع أهلها متتبعين أكابر الشيعة بالتنكيل والغوائل، فَقَتَّلوا بإثم التشيع على الظن والتهمة، وأسسوا حملات التهجير القسري بحق سكانها فشتتوهم في الآفاق، ثم استجلبوا الأجانب الموالين للسلطات ووطَّنوهم الكوفة بهدف تغيير ديموغرافيتها وتحويلها من مركز نابض بالتشيع لآل البيت (صلوات الله عليهم) إلى بؤرة مناصرة لأعدائهم، مع شراء ذمم من كان على حرف في ولائه وتشيعه من أهلها، والقصد من وراء ذلك القضاء على تماسك الصف الشيعي الرافض وتجريده من قوته، وقد حقَّقت جرائمهم تلك بحق الكوفة وأهلها شيئًا ممَّا كانوا يرومونه.
وكان من طرح ذلك ما تجلَّى من مشهد رفض خجول حينما سُيِّر ركب السبايا الثاكلات رفقة الإمام زين العابدين (صلوات الله عليه) إلى الكوفة، فكان تعاطي بقية شيعتها مع ذلك الحدث دون المستوى، مكتفين بالعويل والبكاء على رزئ سيد الشهداء وحال النسوة والأطفال، حتى قيل: ما مروا بزقاق إلا وقد ملئَ رجالًا ونساءً، يضربون وجوههم ويبكون([6]).
بعد أزقة الكوفة وطرقاتها كانت الوجهة بلاط الدعي عبيد الله بن زياد، حيث فورة اللوعة وزحمة الأسى لثاكلات الرسالة، اللاتي أبينَ إلّا التجلد ردًا والشموخ جوابًا فكسرن بتصبرهن جبروت العدو وأفحمن منطقه، وما أن يمر ذكر بلاط الكوفة إلَّا ويسمع صدى الخطاب الزينبي والرد السجادي من كل جانب متسيدًا المشهد، وممَّا طيَّعته العقيلة (سلام الله عليها) من كلمات لمعانٍ متينة محكمة: ردها حين حمد الدعي ابن زياد الله شامتًا متشفيًا بمقتلة كربلاء فأفحمته (سلام الله عليها) واضعة الحمد موضعه قائلةً: ((الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد (صلى الله عليه وآله) وطهرنا من الرجس تطهيرًا، وإنَّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله، وأيضًا ردها بإباء حين سألها كيف رأت صنع الله بالحسين (صلوات الله عليه) وأهل بيته فقالت: ما رأيت إلَّا جميلا هؤلاء قوم كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذٍ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة)) ([7]).
والخلاصة كان سبي الإمام السجاد (صلوات الله عليه) مع العقائل والأطفال كالموثِّق للثورة والمدون لتفاصيلها، منذ أن حُملت الفاجعة على أكتاف الأُسارى إلى كل مصر؛ فأسهم ذلك في اسدال الستار عن حقيقة كربلاء، كاشفًا عَّما أخفته السلطة من أصل صراع مضيئًا على ما عُتِّم عليه من انتهاكات سافرة بحق ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكان الركب كفريق إعلام تكفل ببث الحقيقة وتفنيد الأكاذيب صانعًا نصرًا بلون آخر على مشقة المهمة وثقل المأساة؛ لتنتج كربلاء خلودًا من مزاج قتل وسِبى.

الهوامش:
[1] بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت: 1111): 44/364.
[2] بحار الأنوار: 57/210.
[3] نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 86، رقم (47).
[4] مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب (ت: 588): 3/7.
[5] الأمالي، الشيخ الطوسي (ت: 460): 154.
[6] ينظر: الأمالي، الشيخ الصدوق (ت: 381):229.
[7] بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت: 1111): 45/116.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3495 Seconds