سقف مواساة

مقالات وبحوث

سقف مواساة

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 09-10-2020

خُطَى الخُزَاعي

خلف هامش كان ستارًا، ثواكلٌ كنَّ مصادرَ غذَّينَّ متن حكاية؛ سطور نصها أفئدة وفلذات أكباد تفرَّت على ذهول منهنَّ لم يَعهدنَه، رأين بدهشة ملء الروع كيف تلتهم آفة الموت على عجلٍ ينع البذار، التقطنَ ما عاينَّه على مضاضة ذاكرة حية، ما برحت مشاهدها تنساب متحركة من بين الأهداب، مع كلِّ إيماءة جفن يهبن صورًا بأبعاد الحقيقة لمن لم يشهد الفاجعة فتحضر كربلاء الفقد من جديد، وتتجدد لهنَّ معها عين اللوعة، منحن طيب الحياة إقالة ورقَّعن لبقية إيام مدرعات الصبر.
نزولًا عن أفق زينب (عليها السلام)، إلى حيث سقف الرباب (رضوان الله عليها)، ذات الثكل والمناغاة، الموَثَّق لها حضورًا واعيًا على محك كربلاء، ذاك المحك الذي زان إيمانها فقدَّر لها ابتلاءً على وزانه، لتخرج من محنتها ثابتة تعالج فداحة المصاب بقوة الإيمان.
هي الرباب بنت امرئ القيس بن عدي بن عوس (أوس) بن جابر بن كعب بن عليم الكلبي، كان والدها أميرًا على قضاعة الشام([1])، أسلم على عهد عمر بن الخطاب، التقاه أمير المؤمنين وعرَّفه بنفسه وبالحسنين (صلوات الله عليهم)، فرغب الرجل في مصاهرته، فزوجه وولديه بناته الثلاثة، وكانت الرباب زوجة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ([2])، عرف عنها أنَّها من خيار النساء وأفضلهن([3])، أنجبت للإمام الحسين (صلوات الله عليه) سكينة وعبد الله الرضيع([4])، كانت لها مكانة متميزة عند المولى أبي عبد الله الحسين وقد نقلوا أنَّه قال فيها وفي سكينة([5]):

((لعمرك أنَّني لأحبُّ دارًا   ***    تحلُّ بها سكينة والرباب))

كان لعطش كربلاء معها لونٌ آخر تجرعته بإحساس مختلف، ذاقته حرقة رضيع بقلب أم رؤوم، فتَّشت كل الوقت عن ثمَّة سبيل يهدئه، فرأت أنَّ الجاهلية الأموية أغلقت أمامها السُّبل؛ إذ واصلت رأسي مدارها وأفرغته من كلِّ مروءة فما أن تفزع من عطش صغيرها باحثة عن إمكانية ريِّه إلَّا وترى أنَّها قد وقفت من جديد عند حرقة عطشه بلا حيلة، لم يبق أمامها سبيل سوى أن تبعث به إلى والده عسى أن يرحم الأعداء صرخته فيسقوه قطرات ماء تبل صداه، فيعالج ذبولًا ويستعيد بسماتٍ، ما لبثت إلَّا  يسيرًا حتى رأته وقد استحال ذبوله موتًا وصراخه صمتًا، فتداركتها روح إيمان ربطت جَنانها لتوقن أنَّ صغيرها من جند الله متأسيةً بسيد الشهداء (صلوات الله عليه) فصبرت واحتسبت([6]).
مرت (رضوان الله عليها) بمصاعب كربلاء؛ فمُنيت بفقد صغيرها ثم رحلة سبي من أقسى ما يكون، ولعلَّ فقد المولى أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه) كان من أشدِّ مصائبها إيلامًا؛ فكان هذا الأمر من أكثر نقاط الإضاءة توهجًا في سيرتها (رضوان الله عليها)، نقل ابن الأثير (ت:630ه) في ذلك: ((كان مع الحسين امرأته الرباب بنت امرئ القيس، وهي أم ابنته سكينة وحملت إلى الشام فيمن حمل من أهله، ثمَّ عادت إلى المدينة فخطبها الأشراف من قريش، فقالت: ما كنت لأتخذ حموًا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبقيت سنة لم يظلها سقف بيت حتى بليت وماتت كمدًا، وقيل: إنَّها أقامت على قبره سنة وعادت إلى المدينة فماتت أسفًا عليه)) ([7]).
 حفلت أيامها بعد كربلاء بالمآتم والمراثي متفجعةً لسيد الشهداء (صلوات الله عليه)، وقد نقلوا عنها مراثي عدة؛ منها عند وصول رحلة السبي إلى الشام ورؤيتها الرأس الشريف، قيل: إنَّها أخذته في حجرها وقالت:([8]):

وا حسينا فلا نسيت حسينا     ***     أقصدته أسنة الأعداء؟  

غادروه بكربلاء صريعا       ***     لا سقى الله جانبي كربلاء

لتتخذ من الحزن والرثاء ومواساة سيد الشهداء دأبًا ومنهج حياة، وممَّا كانت ترثيه به أيضًا([9]): 

((إنَّ الذي كان نورًا يُستضاءُ به   ***    بكربلاء قتيل غير مدفون

سبط النبي جزاك الله صالحة      ***     عنَّا وجُنِّبت خسران الموازين

قد كنت لي جبلًا صعبًا ألوذُ به   ***     وكنت تصحبنا بالرحم والدين

مَن لليتامى؟ ومن للسائلين؟         ***     يغني ويؤوي إليه كلُّ مسكين

والله لا أبتغي صهرًا بصهركم     ***    حتَّى أغيب بين الرمل والطين))

وقد ذُكرت في النقل الشريف على لسان أبي عبد الله الصادق (صلوات الله عليه) بقوله: ((لمَّا قُتل الحسين (عليه السلام) أقامت امرأته الكلبية عليه مأتمًا وبكت وبكين النساء والخدم حتى جفت دموعهن)) ([10]).
رحلت رضوان الله عليها بعد استشهاد المولى أبي عبد الله (صلوات الله عليه) بعام كما مرَّ، بعد أن أبدعت في لون مواساتها له، كانت تستحضر شيئًا من مصائبه؛ ولكن ليس على نحو الاستذكار والتصور؛ بل كانت تبحث في مواساتها عن سقفٍ عالٍ فكانت تعيش المصيبة على نحو الحضور؛ إذ رفعت لسقف مواساتها سقف دارها، وأباحت للشمس والعطش أن يحضران مجددًا؛ ليتجدَّد بهما لوعة تملئ الروح، وتعيش كربلاء حضورًا حيًّا ومواساة.

الهوامش:
[1])) ينابيع المودة لذوي القربى، القندوزي (ت: 1294): 3/9.
[2])) الغارات، إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي (ت: 283): 2/816 ، الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني (ت: 852هـ): 1/355 .
[3])) الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني (ت: 356): 16/361.
[4])) مستدركات علم الرجال، الشيخ علي النمازي الشاهرودي (ت: 1405): 8/574.
[5])) الغارات، إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي (ت: 283): 2/816.
[6])) ينابيع المودة لذوي القربى: 3/79، لواعج الأشجان: السيد محسن الأمين (ت: 1371): 181-182.
[7])) الكامل في التاريخ: ابن الأثير: 3/191.
[8])) لواعج الأشجان: 223.
[9])) أعيان الشيعة، السيد محسن المين: 6/449.
[10])) الكافي، الشيخ الكليني (ت: 329): 1/446، ح9.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2877 Seconds