من ضوابط فهم النص القرآني في نهج البلاغة: أولاً: استنطاق القرآن الكريم

مقالات وبحوث

من ضوابط فهم النص القرآني في نهج البلاغة: أولاً: استنطاق القرآن الكريم

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 16-12-2020

بقلم م. م. الشيخ محسن الخزاعي- جامعة الكوفة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين أساس الدين وعماد اليقين.
أما بعد:
نزل القرآن الكريم بلسان العرب وعالج قضاياهم وعبّر بلغتهم عن مراده على عهد الله تعالى في إنزال الكتب وإرسال الرسل ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[1].
ولما كان العرب قوماً فصحاء فقد أدركوا دلالات القرآن الكريم، وفقهوا معانيها بحسب ما أراده الله تعالى لهم حينما نزل القرآن الكريم فقد كان لسانه ﴿... لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾[2].
لذا حاول جمع من أعلام المفسرين أن ينهجوا منهج استنطاق القرآن الكريم ، أي أنهم اعتمدوا تفسير القرآن بالقرآن؛ وذلك لما ورد عن النبي وأهل بيته عليهم السلام من أن القرآن يفسر بعضه بعضاً وينطق بعضه ببعض، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ القرآن ليصدق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضه ببعض»[3].
والمعنى ذاته ورد في خطبة الزهراء عليها لسلام الكبرى قالت: «كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع والضياء اللامع بينة بصائره، منكشفة سرائره، متجلية ظواهره، مغتبطة به اشياعه، قائد إلى الرضوان إتباعه، مؤد إلى النجاة أسماعه، به تنال حجج الله المنورة، وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبياناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة»[4].
وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «وكتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه وبيتٌ لا تهدم أركانه وعز لا تهزم أعوانه... كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض ولا يختلف في الله ولا يخالف بصاحبه عن الله»[5].
ولهذا تعد عملية استنطاق القرآن الكريم من أبرز معالم نظرية أهل البيت عليهم السلام في فهم القرآن الكريم فهماً دقيقا وتفصيلياً.
قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: « إن الله تعالى بعث رسولاً هادياً بكتاب ناطق وأمرٍ قائم لا يهلك عنه إلا هالك وإن المبتدعات والمتشابهات هن المهلكات إلا ما حفظ الله منها»[6].
وتجدر الإشارة إلى أن عملية استنطاق القرآن الكريم لا تتأتى لكل أحد إلا لأهل البيت عليهم السلام؛ إذ إن في القرآن الكريم من الأسرار ما لا يدركها إلا المعصوم والندرة من أصحابه.
قال عليه السلام: «ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أخبركم عنه ألا إن فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم»[7].
أي انه لا ينطق مع كل أحد إلا مع أهل البيت عليهم السلام ومن سار على هديهم واتبع منهجهم في إدراك مضامين القرآن الكريم.
فمن أمثلة هذه القاعدة في تراث أهل البيت عليهم السلام ما أثر عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ...﴾[8]، أي قول اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك.
وهم الذين قال الله عز وجل: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾[9].
وحكي هذا بعينه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال «ثم قال ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحة البدن وإن كان كل هذا نعمة من الله ظاهرة، ألا ترون أن هؤلاء قد يكونون كفاراً أو فساقاً فما ندبتم إلى أن تدعوا بان ترشدوا إلى صراطهم، وإنما أمرتم بالدعاء بان ترشدوا إلى صراط الذين أنعم عليهم بالإيمان بالله وتصديق رسوله وبالولاية لمحمد وآله الطاهرين، وأصحابه الخيرين المنتجبين، وبالتقية الحسنة التي يسلم بها من شر عباد الله، ومن الزيادة في آثام أعداء الله وكفرهم ، بأن تداريهم ولا تعزيهم بأذاك وأذى المؤمنين، وبالمعرفة بحقوق الأخوان من المؤمنين»[10].
نخلص من خلال ما تقدم إلى أن الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام أسس لمنهج تفسير القرآن بالقرآن من خلال تأمل النص القرآني والتدبر فيه، وعدم إسقاط الأفكار المسبقة عليه وذلك لمعرفة أسراره، وتثوير مضامينه، فهو متجدد وينطق بعضه ببعض، ويدل على معانيه فالكل يأخذ منه ولا ينقص منه شيء، ففيه علم الأولين والآخرين وفيه تبيان لكل شيء.
وكان لهذه القاعدة التي أسس لها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة كبير الأثر في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي إذ إنه بنا منهجه عليها واستدل صراحة على صحة منهجه بما ورد عن امير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة بقوله: (وقال علي عليه السلام يصف القرآن على ما في النهج ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض (الخطبة) وهذا هو الطريق المستقيم والصراط السوي الذي سلكه معلمو القرآن وهداته صوات الله عليهم)[11].
ومن خلال طريقة استدلال السيد الطباطبائي على صحة منهجه يتبين لنا حجم التأثر بكتاب نهج البلاغة ليس في التفسير فحسب وإنما في المنهج ايضاً.
فقد أفاد السيد العلامة هذا المنهج ليس في الميزان فقط، بل في نتاجاته القرآنية كلها، كما هو الحال في (مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي)[12]([13]).

الهوامش:
[1] إبراهيم، 4.
[2] النحل: 103.
[3] كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، للمتقي الهندي.
[4] الاحتجاج: 1/ 258.
[5] نهج البلاغة: 2، 17.
[6] نهج البلاغة: 2، 81.
[7] نهج البلاغة: 1، 55.
[8] الفاتحة: 7.
[9] النساء: 69.
[10] تفسير الإمام العسكري: 48؛ معاني الأخبار، الصدوق: 37؛ بحار الانوار: 24/10.
[11] الميزان: 1/ 12.
[12] ينظر: مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، تعريب خالد توفيق جواد علي، ط1، 319.
[13]) لمزيد من الاطلاع ينظر: أثر نهج البلاغة في تفاسير الإمامية، الشيخ محسن الخزاعي: 87-91، طبعة مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2468 Seconds