المبالغة بأسماء الأفعال في نهج البلاغة: خامسًا (دونك) في قوله عليه السلام ((كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رُفِعَ أحدُهما، فدونكمُ الآخرَ))

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

المبالغة بأسماء الأفعال في نهج البلاغة: خامسًا (دونك) في قوله عليه السلام ((كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رُفِعَ أحدُهما، فدونكمُ الآخرَ))

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 30-06-2021

بقلم: د. حيدر هادي الشيباني

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
فإن أسماء الأفعال من الموضوعات اللغوية التي شغلت عناية الكثيرين من علماء العربية، قدماء ومحدثين ومعاصرين، إذ لم يخلُ كتاب في العربية قدم من ذكرها.

والمراد بأسماء الأفعال المُراد بأسماء الأفعال أنَّها ألفاظ «وُضِعت لتدل على صيغ الأفعال، كما تدلُّ الأسماء على مسمياتها»([1]).

أمّا دلالتُها فقد ذكر كثير من اللغويين أنَّها تفيد المبالغة، فضلاً عن إفادتها الاتِّساع والاختصار، قال ابن السَّرَّاج: «فجميع هذه الأسماء التي سُميَ بها الفعل إنما أُريد بها المبالغة، ولولا ذلك لكانت الأفعال قد كفَت عنها»([2])، وأكد ذلك ابن جني مفسِّرًا، فقال: «وذلك أنك في المبالغة لا بد أن تترك موضعًا إلى موضع، إمّا لفظًا إلى لفظ، وإمّا جنسًا إلى جنس»([3])، وإلى هذا ذهب ابن يعيش([4])، والرضي الاسترابادي([5]).

من هنا نجدها وردت في كتاب نهج البلاغة، وهي على النحو الآتي:

خامسًا: دُونَكَ
اسم فعل منقول من ظرف، بمعنى: (خُذْ)، قال سيبويه: «ودُونَكَ: بمنزلة (خُذْ»)([6]).

وقولُنا: دونَك زيدًا، معناه: خُذْه فقد أمكنكَ، فاختُصِرَ هذا الكلام الطويل لغرض حصول الفراغ منه بسرعة، ليُبادر المأمور إلى الامتثال قبل أنْ يتباعدَ عنه لهذا دلَّ (دُونك) على المبالغة والتوكيد([7]).

ورد هذا البناء في نهج البلاغة في موضع واحد؛ فيما حكاه عنه الإمام الباقر (عليهما السلام)، إذ قال: «كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رُفِعَ أحدُهما، فدونكمُ الآخرَ فتَمسَّكوا به، أمّا الأمانُ الذي رُفع فهو رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمّا الأمانُ الباقي فالاستغفار»([8]).

فيما مرَّ (دونكم) وهو اسم فعل بمعنى: ألزموا أو خذوا.

كلام الإمام (عليه السلام) يشير إلى سبيلين لدفع العذاب الإلهي؛ أحدهما: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فوجوده بين الأمة سببٌ في نزول رحمة الباري عز وجل، ورجوعُه إلى الرفيق الأعلى سببٌ في نزول عذابه([9])، لقوله تعالى: ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال/ من الآية:33]، أمّا السبيل الآخر فهو الاستغفار، وهو وسيلة لدفع البلاء، ونزول الرحمة الإلهية، ينبغي للمؤمن الإفادة منها، لقوله تعالى: ﴿وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [ الأنفال/ من الآية: 33]. وفي إيثاره (عليه السلام) اسم الفعل (دونكم) على الفعل الذي بمعناه إشارةٌ إلى أنّ الطلب يستلزم سرعة امتثال المخاطَب، ولا يمكن تأخيره، استثمارًا لنعمة الاستغفار، لا لأنَّه سيُمنعُ عن العِباد، فهو باقٍ كما قال الإمام، بل لأنَّ في ذلك حثًّا على الإسراع في التوجُّه إلى الله تعالى، والتوبة من المعاصي والذنوب، وفي ذلك رضا الله سبحانه، والعكس صحيحٌ أيضًا، وهذا ما صرَّح به القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ [الحديد/ من الآية:21].
والمراد: سابِقوا إلى سائر ما كُلِّفتم به؛ لأنَّ المغفرة والجنة لا يُنالان إلا بالانتهاء عن جميع المعاصي والذنوب، والاشتغال بكلِّ الطاعات([10])، ووجهُ الشبه واضح بين النصّين القرآنيّ والعَلويّ.
ومما يَعضد دلالة اسم الفعل (دونكم) على سرعة الطلب تقديمُ عبارة «فدونكم الآخر فتمسَّكوا به» على ما تعنيه لفظة (الآخر)([11]).

الهوامش:
([1]) شرح المفصل: 4/25.
([2]) الأصول في النحو: 2/134.
([3]) الخصائص: 3/46.
([4]) ينظر: شرح المفصل: 4/25.
([5]) ينظر: شرح الرضي على الكافية: 3/89.
([6]) كتاب سيبويه: 1/252، وينظر: الخصائص: 3/35.
([7]) ينظر: شرح الرضي على الكافية: 3/89، والنحو العربي نقد وتوجيه، د. مهدي المخزومي: 204 وأساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين، د. قيس الأوسي: 182.
([8]) شرح (ابن أبي الحديد): 18/240.
([9]) ينظر: شرح (البحراني): 5/284.
([10]) ينظر: تفسير الرازي: 29/234.
[11] لمزيد من الاطلاع ينظر: ابنية المبالغة وأنماطها في نهج البلاغة، حيدر هادي الشيباني، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 133 - 135.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2807 Seconds