من ألفاظ التجارة في نهج البلاغة: 2- الاتجار

مقالات وبحوث

من ألفاظ التجارة في نهج البلاغة: 2- الاتجار

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 30-09-2021

بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي

الحمد لله الأول بل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..
وبعد:
وردت لفظة (التجارة) في كلام الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة للدلالة على نوعين من أنواع التجارة، وهي:
1) المعنى الحقيقي: هي عملية البيع والشِّراء المعروفة.  فجاءت في كلام الإمام (عليه السلام)  مفردة (اتَّجَرَ)،  فجاء على زنة (افْتعَلَ)  الدالة على الكَسْب والاجتهاد والعمل في التّجارة،  وذلك في قوله (عليه السلام): «مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا»[1].
والتِّجارة والتَّجر بمعنى واحد، لأنّ مسائل الرِّبا مشتبهة بمسائل البَيع، ولا يفرق بينهما إلاّ الفقيه، حتى العظماء من الفقهاء اشتبه عليهم الأمر[2].
وجاء اسم الفاعل من (تَجِر)  معَّرفا بـ(ال)  وهو:  التّاّجر،  إذ ورد قوله في الكتاب السابق نفسه: « وَلِكُلِّ أَمْر عَاقِبَةٌ،  سَوْفَ يَأْتيِكَ مَا قُدِّرَ لَكَ،  التَّاجِرُ مُخَاطِرٌ»[3].
إذ خصّ الإمام (عليه السلام) هنا التّاجر بالذِّكر، ولم يجعل الصيغة منّكرة لتدلّ على العموم؛ لأنّه يتعجل بإخراج الثّمن ولا يعلم أيعود أم لا؟ فهو مخاطر لا يأمن أن يكون بعض تلك السيئات تحبط أعماله الصالحة، ولا يأمن أن يكون بعض أعماله الصالحة يكفر تلك السيئات، ومبتغى الكلام أنه لا يجوز للمكلف أن يفعل إلاّ الطّاّعة أو المباح[4].
 لذا نجد الإمام (عليه السلام) قد عرَّف هذه الصيغة بـ(ال)، إذ خصّ مجموعة معينة من التجار.     وجاءَ الجمع منه على زنة (فُعَّال) جمع كثرة من اسم الفاعل (تاجر) معرًفا بـ(ال)، وهذا الوزن دلً على التكثير والمبالغة في التجارة، إذ لم يطلق هذا الجمع على من تاجروا بتجارة واحدة؛ بل لمن كًثُر منهم ذلك، فصّارت التِّجارة حرفة لهم، لأنّ هذا الجمع يُطلَق لتكثير القيام بالفعل لا لتكثير العدد[5]  
وقال في خطابه إلى الصحابي مالك الأشْتَر (عليهما السلام): «وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَا إلاَّ بِبَعْض،  وَلاَ غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْض:  فَمِنْهَا جُنُودُ اللهِ، مِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ،  وَمِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ، وَمِنهَا عُمَّالُ الاْنْصَافِ وَالرِّفْقِ، وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَالْخَراجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ،  وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ»[6]،  فقسَّم الرَّعية على طبقاتٍ منهم:  الجنود،  والكتَّاب،  والقُضَاة، والعُمَّال، وأربابُ الجِّزية من أهلِ الذِّمة،  وأربابُ الخّراج من المسلمين،  ومنهم التّجار،  ومنهم أرباب الصِّناعات،  وذوو الحَاجة والمسكنة،  والخَراج الذي يُصرَف للجُندِ والقُضاة والعُمَّال والكُّتاب ولابدَّ لهؤلاءِ جميعاً من التّجار ؛ لأنّ البيع والشراء لاغناءَ عنه[7].
    وقال: « وَلاَ قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلاَّ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ،  فِيَما يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ،  وَيُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ،  وَيَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ ممّا لاَ يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ »[8]، ويعني بـ(ولا قوام لهم جميعاً)  أي:  (الجنود والقضاة والرعية)، ثم استوصى بهم قائلاً (يامالك): «ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ،  وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً:  الْمُقِيمِ مِنْهُمْ،  وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ،  وَالْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ،  فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ،  وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ،  وَجُلاَّبُهَا مِنَ الْمَباعِدِ وَالْمَطَارِحِ،  فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ،  وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ... »[9]،  فأوصَّى بهم ؛ لأنَّهم دعامة من دعائم الاقتصادِ.
وجاءَ المصدرُ على زنة (فِعَالة) وهذه الصِّيغة تدلُّ على حرفةِ وصنعة التِّجارة، وقد جاءتْ مُنَّكرة في الآية التي استشهد بها: «رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ»[10]،  فأدرَكوا أنّ الدُّنيا إلى زوالٍ،  وأنّ الآخرة لِمَن قدمتْ يداه من الخيرِ،  فسَعَوا سَعيه لاتلهيهم عنه تجارة ولا بيع[11].[12].

الهوامش:
[1] نهج البلاغة: الحكم القصار:  447،  417.
[2] ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 20 / 86.
[3] نهج البلاغة: ك 31، 300.
[4] ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 16 / 81.
[5] ظ: معاني الابنية في العربية: فاضل صالح السامرائي: 130.
[6] نهج البلاغة: ك 53، 324.
[7] ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 17 / 40.
[8] نهج البلاغة: ك 53، 324.
[9] المصدر نفسه.
[10] النور/ 37   ونهج البلاغة: خ 222، 251.
[11] ظ: في ظلال نهج البلاغة: 4 / 460.
[12]لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 39 –42.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2725 Seconds