الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام في خطبة له (عليه السلام) يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس

سلسلة قصار الحكم

الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام في خطبة له (عليه السلام) يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 05-12-2023

بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:
الدنيا في خطبة له عليه السلام: يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس، ومنها يقول عليه السلام في صفة الجنة:
فَلَوْ رَمَيْتَ بِبَصَرِ قَلْبِكَ نَحْوَ مَا يُوصَفُ لَكَ مِنْهَا لَعَزَفَتْ[1] نَفْسُكَ عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ إِلَى الدُّنْيَا  مِنْ شَهَوَاتِهَا ولَذَّاتِهَا، وزَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا، ولَذَهِلَتْ[2] بِالْفِكْرِ فِي اصْطِفَاقِ أَشْجَارٍ غُيِّبَتْ عُرُوقُهَا فِي كُثْبَانِ الْمِسْكِ عَلَى سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا، وفِي تَعْلِيقِ كَبَائِسِ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فِي عَسَالِيجِهَا وأَفْنَانِهَا، وطُلُوعِ تِلْكَ الثِّمَارِ مُخْتَلِفَةً فِي غُلُفِ أَكْمَامِهَا، تُجْنَى مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَتَأْتِي عَلَى مُنْيَةِ مُجْتَنِيهَا، ويُطَافُ عَلَى نُزَّالِهَا فِي أَفْنِيَةِ قُصُورِهَا، بِالأَعْسَالِ الْمُصَفَّقَةِ والْخُمُورِ الْمُرَوَّقَةِ.
 قَوْمٌ لَمْ تَزَلِ الْكَرَامَةُ تَتَمَادَى بِهِمْ، حَتَّى حَلُّوا دَارَ الْقَرَارِ وأَمِنُوا نُقْلَةَ الأَسْفَارِ، فَلَوْ شَغَلْتَ قَلْبَكَ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ، بِالْوُصُولِ إِلَى مَا يَهْجُمُ عَلَيْكَ مِنْ تِلْكَ الْمَنَاظِرِ الْمُونِقَةِ، لَزَهِقَتْ نَفْسُكَ شَوْقاً إِلَيْهَا، ولَتَحَمَّلْتَ مِنْ مَجْلِسِي هَذَا، إِلَى مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ اسْتِعْجَالًا بِهَا، جَعَلَنَا اللَّه وإِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْعَى بِقَلْبِه، إِلَى مَنَازِلِ الأَبْرَارِ بِرَحْمَتِه[3].

شرح الألفاظ الغريبة:
عَرَفَتْ نفسك: كرهت وزَهِدت؛ اصطفاق الأشجار: تضارب أوراقها بالنسيم بحيث يسمع لها صوت؛ الكثبان: جمع كثيب، وهو التل؛ الأفنان: - جمع فَننْ – بالتحريك وهو الغصن؛ كبائس: جمع كباسة وهي العذق؛ العساليج: الغصون واحدها عسلوج؛ غلف: بضمتين – جمع غلاف والأكمام: - جمع كم – بكسر الكاف، وهو وعاء الطلع وغطاء النوار؛ تجنى: تقطف؛ المصفقة: المصفاة؛ المونقة: المعجبة[4].

الشرح:
قوله: ((فلو رميت ببصر قلبك)): استعارة لطيفة: أي لو نظرت بعين بصيرتك وفكرت في معنى ما وصف لك من متاع الجنة لم تجد لشيء من بدائع ما أخرج إلى الدنيا من متاعها إلى شيء من متاع الجنة إلا نسبة وهمية إذا حظتها نفسك عزفت وأعرضت عن متاع الدنيا وما يعد فيها لذة، وغابت بفكرها في اصطفاق الأشجار الموصفة فيها وتمايل أغصانها.

ثم وصف أشجارها وأنهارها وسائر ما عدده من متاع الجنة وصفاً لا مزيد عليه. فهذه هي الجنة المحسوسة الموعودة، وأنت بعد معرفتك بقواعد التأويل وحقائق ألفاظ العرب ومجازاتها واستعاراتها وتشبيهاتها وتمثيلاتها  وسائر ما عددناه لك في صدر الكتاب من قواعد علم البيان، وكان لك مع ذلك ذوق طرف من العلم الإلهي أمكنك أن تجعل هذه الجنة المحسوسة سلماً ومثالاً لتعقل الجنة المعقولة ومتاعها كتأويلك مثلاً أشجار الجنة استعارة للملائكة السماوية ((والاصطفاق)) ترشيح تلك الاستعارة، ((وكثبان المسك)) استعارة للمعارف والكمالات التي لهم من واهب الجود وهم مغمورون فيها وقد وجدوا لها ومنها كما تنبت الأشجار في الكثبان.

ولفظ ((الأنهار)) استعارة للملائكة المجردين عن التعلق بالأجرام الفلكية باعتبار كون هذه الملائكة أصولاً ومبادئ للملائكة السماوية كما أن الأنهار مبادئ ممدة لحياة الأشجار وأسباب لوجودها.
((واللؤلؤ الرطب)) ((والثمار))، استعارة لما يفيض من تلك الأرواح من العلوم والكمالات على النفوس القابلة لها من غير بخل ولا منع، فهي ثمارها تأتي على منية مجتنيها بحسب استعداه لكل منها.
والقوة المتخيلة تحكي تلك الإفاضات في هذه العبارات والظواهر المحسوسة المعدودة وتكسوها صورة ما هو مشتهى للمتخيل كل بحسب شهوته، ولذلك كان في الجنة كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ويتأهل لحضوره فيحضر لها عند إرادتها إياه، وكذلك لفظ ((العسل والخمر))، استعارة لتلك الإفاضات المشتهات الملذة للنفس بحسب محاكاة المتخيلة لها في صورة هذا المشروب المشتهي لبعض النفوس فتصوره بصورته.
وقوله: ثم ((قوم لم تزل الكرامة...)) إلى قوله: ((الأسفار)): استعاره لفظ ((التمادي)) الذي هو من أفعال العقلاء لتأخير الكرامة عنهم وانتظارهم لها في الدنيا إلى غاية حلولهم دار القرار وحصول الكرامة لهم هناك وأمنهم من (((نقله الأسفار)) ثم عقب بتشويق المستمع إلى ما هناك.

وقوله: ((فلو شغلت قلبك)): أي أخذت في إعداد نفسك للوصول إلى ما يهجم عليك: أي يفاض عليك من تلك الصور البهية المعجبة ((لزهقت نفسك)): أي مت شوقاً إليها ورحلت إلى مجاورة أهل القبور استعجالاً لقربهم إلى ما يشتاق إليه.
ثم ختم الخطبة بالدعاء لنفسه وللسامعين أن يعدهم الله تعالى لسلوك سبيله وقطع منازل طريقه الموصلة إلى منازل الأبرار وهي درجات الجنة ومقاماتها، وبالله التوفيق[5])([6]).

الهوامش:
[1] في شرح نهج البلاغة لابن ميثم: (لَغَرَفَتْ) وفي محمد عبده: (لَغَرِفَتْ).
[2] في شرح نهج البلاغة لابن ميم (وَلَذَهلَتْ) وفي نهج محمد عبده: (وَلَذِهلْتَ).
[3] نهج البلاغة لصبحي صالح: 239/ ضمن الخطبة رقم 165، ونهج البلاغة للشيخ العطار، 317/ ضمن الخطبة رقم 165، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 312/ ضمن الخطبة رقم 164، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 330.
[4] شرح الألفاظ الغريبة: 637، الألفاظ الغريبة في شرح نهج ابن ميثم 3: 313.
[5] شرح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 313- 314/ ضمن شرح الخطبة رقم 164.
([6]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 182-185.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2645 Seconds