بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي
الحمد لله الأول قبل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..
اما بعد:
تكرر هذا اللفظ ثلاث مرات في النَّهْج، ويدل على:
1) المعنى الحقيقي، فجاء (نجد) متصلاً بضمير الغائب (الهاء) في قوله: «وَنَاظِرُ قَلْبِ اللَّبِيبِ بِهِ يُبْصِرُ أَمَدَهُ، وَيَعْرِفُ غَوْرَهُ وَنَجْدَهُ. دَاع دَعَا، وَرَاع رَعَى، فَاسْتَجِيبُوا لِلدَّاعِي، وَاتَّبِعُوا الرَّاعِيَ»[1]
أتى الامام بالمتضادات (غوره، نجده) منخفضه ومرتفعه، ويعني به طريقا الخير والشر، ويعني به النازلين دركات الجحيم من النجد. و(داعٍ، راع ٍ) والدَّاعي هو الرسول (صَلَّى الله عليه وآله وسلم)، والرَاعي هو الإمام (عليه السّلام)، فامر بالاستجابة للأول والاتباع للثاني (دعا، رعى).
وقوله عليه السلام: «الْحَمْدُ لله خَالِقِ الْعِبَادِ، وَسَاطِحِ الْمِهَادِ، وَمُسِيلِ الْوِهَادِ، وَمُخْصِبِ النِّجَادِ» [2] الساطح: الباسط، المهاد: الأرض، والوهاد: المكان المطمئن، النجاد: جمع نجد المكان المرتفع فلفظ (العباد): مشتمل على من في السموات والأرض، والمهاد: خلق الأرض ومخصب النِجاد ايجاده لسائر ما ينتفع به الخلق في الدنيا ومخصب النجاد: اشارة الى ايجاده سائر ما ينتفع به الخلق في الدنيا[3]، والخصب بعكس القحط. نلاحظ ايراد الامام (عليه السلام) للفواصل أو السجع بكلمات انتهت بحرف الدال (العباد، المهاد، الوهاد، النجاد) وسبقت كلها بصيغة اسم الفاعل (خالق، ساطح، مسيل، مخصب) وتعود اليه (عز وجل).
وجاء الإمام بصيغة المصدر الدال على طلب الدعاء (سقيا) في خطبة الاستسقاء قائلاً: (اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ تُعْشِبُ بِهَا نِجَادُنَا، وَتَجْرِي بِهَا وِهَادُنَا، وَيُخْصِبُ بِهَا جَنَابُنَا وَتُقْبِلُ بِهَا ثِمَارُنَا» [4].
والنجاد: ما ارتفع من الأرض، والوِهاد: ما انخفض من الأرض، والجناب الناحية وكلها اتصلت بضمير المتكلمين (نا)، والمعنى اللهم (اسقنا سقياً منك)، فحذف الفعل لدلالة الكلام عليه، ثم علل هذه السقيا بالجملة الفعلية (تعشب به نجادنا، وتجري به وهادنا، ويخصب به جنابنا، وتقبل به ثمارنا)؛ فجواب الأمر جاء بالفعل(تُعْشِب)، وهو فعل مضارع يدل على الحال والحدوث والتجدد.
النـًجْدُ: ما خالف الغور. وأنجد القوم صاروا ببلاد نجد. وكل شرف من الأرض استوى ظهره فهو نجد، ويجمع على أنجاد، وأنجد والجماعة النجادُ، والنِّجادُ في مثل هذه الصفة أرض فيها ارتفاع وصلابة[5].
فالنون والجيم والدال أصل واحد يدلُّ على اعتلاء وقوة وإشراف. ومنه النًجْد: الرجل الشجاع. وهو ما علا من الأرض [6].
وهي قفاف الأرض وصلابتها وما غلظ منها وما أشرف وأرتفع وأستوى، ولا يكون النِّجاد إلا قُفاً او صلابة من الأرض في ارتفاع، وقال الأخفش: نـُجـُدٌ لغة هذيل خاصة يريدون: نَجْداً ويروى النُجٌد جمع نَجْدَاً على نُجْدٍ، جعل كل جزء منه نـَجْدَاً[7].
ومنه قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[8].
واختلف في (النَجْدِين)؛ فقيل: هما طريقا الخير والشر، الطريقين الواضحين، والنجد المرتفع من الأرض[9].
وقيل: هما ثديا الأم بدليل قوله السابق للآية: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ*وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ}[10]
ورجح استاذنا د. عائد كريم الحريزي هذا الرأي قائلا: «يرى جمهور المفسرين أن النجدين هما (طريقا الخير والشر) وهو ما يدرسونه في المدارس عامة، وحتى الجامعات، ويذهب بعضهم ــ على استحياء ــ أنهما ثديا الام، وأنا اميل الى هذا الرأي، وأرجحه بل وأجزم به»[11].
والعرب تقسم وتقول: ونَجدَّي أمّي.
ثم يذكر اسباب هذا الترجيح منها سياق الآيات السابقة عن الولادة وبداياته ولاسيما زمن الرضاعة، وقد ذكر اللسان والشفتين، وكلاهما يستعملهما الطفل في الرضاعة ولا يستعملهما في السير، فضلاً عن ان الله لا يهدي الى الشر بل ينهى عنه [12].)([13]).
الهوامش:
[1] نهج البلاغة: خ 154، 153.
[2] خ 163، 165 .
[3] ظ: شرح نهج البلاغة: البحراني: 3 / 278.
[4] نهج البلاغة: خ 115، 121.
[5] ظ: العين (مادة نجد): 6 / 83 ـ 84.
[6] ظ: مقاييس اللغة: 5 / 392.
[7] ظ: لسان العرب (مادة نجد): 6 / 4345.
[8] البلد / 10.
[9] ظ: معاني القرآن: الفرّاء: 3 / 264 وظ: معاني القرآن: الزجّاج: 4 / 329.
[10] البلد / 8 ـ 9.
[11] من لطائف القرآن الكريم: 88 ـ 91.
[12] ظ: من لطائف القرآن الكريم: 88 ـ 91.
([13]) لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 246-248.