بقلم: د. جليل منصور العريَّض
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
أما بعد:
تربية علمية:
يضع الإسلام العلم في منزلة سامقة، لما له من أهمية في حياة الأفراد والأمم، وتتجلى هذه الأهمية في أن آية نزلت من السماء، قد اسندت العملية التعليمية إلى الله سبحانه وتعالى في قوله:
{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[1]. ولأهمية العلم في حياة البشر فقد كرم الله العلماء، ورفع من مكانتهم لقوله تعالى لا:
{يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[2]. وهذه الدرجات جعلت مقارنتهم بغيرهم من بقية الناس في غير مكانها لقوه تعالى:
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[3] وبطبيعة الحال فإن الاستفهام في الآية يتضمن نوعاً من التهكم، مما يعني ضمنا تعذر المقارنة بين منزلة العالم وغيره من بقية الناس، لأن المسؤولية المناطة بالعلماء جداً خطيرة في جميع مجالات الحياة، لكونهم العقل المدبر الذي يخطط لجميع ميادين الحياة، بحيث يمكن عدّهم صناع الحضارة والقادة الحقيقيين للبشرية وبناة العقول الذين يعول على علمهم في انتشال العقول من براثن الجهل ووضع الإنسانية على الطريق الصحيح، لذلك فقد عدهم الرسول صلى الله عليه وآله «ورثة الأنبياء»[4] والوراثة العلمية أغلى وأندر من جميع الموروثات المادية الآيلة إلى الزوال حتما مهما طال مكثها وبقي اثرها، وبسبب اهتمام الإسلام بالعملية التعليمية، فقد حاول العلماء المسلمون وضع الخطوط الرئيسية للمزايا والشروط التي يجب ان تتوفر في شخصية العالم الحق، مستلهمين ذلك من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وما أثر عن الصحابة والتابعين من اقوال وافعال، واهم هذه الشروط هي:
1ـ النأي بالنفس عن حب الظهور، وتجنب الاطراء «إذ ينبغي ان يكون تعليمه لوجه الله تعالى، لا يريد بذلك رياء ولا رسما ولا عادة ولا زيادة ولاجاه»[5].
2ـ نبذ التكبر عامة وتجاه المتعلمين على وجه الخصوص «بإجراء المتعلم منه مجرى بنيه»[6].
3ـ عدم الجري وراء المادة والتكالب على حب المال «بقطع الطمع عن المتعلمين والرفق بهم في التعليم والتواضع لهم والعطف عليهم وتقريب الفقير لفقره»[7].
4ـ الإخلاص في التعليم بأن «لا يدخر نصحه عن المتعلم، وزجره عن الأخلاق الردية بالتعريض أو التصريح، ومنعه أن يتشوف إلى رتبة فوق استحقاقه»[8].
5ـ اطلاعه الواسع في أساليب التربية والعمل بكل أسلوب في موضعه، فلا يقيم أسلوب التصريح مقام أسلوب التعريض، ولا الفعل موضع القول إذا كان القول يجدي، ويأتي بالثمرة المطلوبة[9].
6ـ مراعاة متطلبات الوضع وحاجة المجتمع، إذ ينبغي من العالم ان يكون ملماً بحاجات العصر، فيوجه المتعلمين الوجهة الصحيحة، بالأساليب المقنعة مع الوضع في عده «ما يهم الطالب في الحال اما معاشه أو معاده، ويعين له ما يليق بطبعه من العلوم»[10].
7ـ الإلمام التام بأساليب العملية التعليمية من حيث التدرج في توصيل المعلومات بحسب السن، وبحسب المستوى الثقافي، والتقبل الفكري[11].
8ـ الاتزان الشخصي بعدم مخالفة القول للفعل، لأن العالم قدوة لذلك يجب ان تكون «عنايته بتزكية اعماله أكثر منه بتحسين علمه ونشره»[12].
9ـ ضبط النفس وكظم الغيظ، وتجمل خرق المتعلمين، ومحاولة توصيل المعلومات لهم بالإعادة لهم والشرح، مع مراعاة مستوياتهم الإدراكية[13].
تلك اذن هي خلاصة الشروط التي يجب ان تتوفر في المتصدر لتعليم الناس في الفكر الإسلامي. واذا ما حاولنا استفتاء فكر علي عليه السلام بشأنها، فلن نجد في نصوص نهج البلاغة ما يوضح ذلك مباشرة، لأن علياًg قد تكلم عن التعليم بخطوط عريضة ترسم لنا فكره الذي يمكننا من خلاله استنتاج، إن سياسته التربوية ما هي إلا جزء لا يتجزأ من سياسته العامة في إدارة شؤون الدولة، بحيث لا يمكن الفصل بين أقواله وبين المجتمع الذي قبلت فيه، لتوحد شخصيته، واندماجها في ذلك المجتمع ومعايشتها مشاكله بكل أبعادها، لذلك فإن شخصية العالم في فكر علي عليه السلام -كما تبدو في نهج البلاغة- يمكن إدراك ملامحها وتكوين فكرة شبه متكاملة عنها من خلال وصفة لإيجابيات عصره وسلبياته.)([14]).
الهوامش:
[1] العلق /3، 4، 5.
[2] المجادلة /11.
[3] الزمر/ 9.
[4] سنن ابن ماجة 1/81.
[5] طاش كبرى زادة ـ مفتاح السعادة 1/39، 40.
[6] طاش كبرى زادة ـ مفتاح السعادة 1/39، 40.
[7] السابق 1/ 41، 42.
[8] السابق 1/ 41، 42.
[9] راجع السابق 1/42.
[10] السابق 1/ 43.
[11] راجع السباق ص 44.
[12] السابق 1/48.
[13] راجع السابق 1/51 وما بعدها.
([14]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 469-472.