القضايا الكلامية والتأملات الكونية كما تبدو في نهج البلاغة القضايا الكلامية المتعلقة بالعقيدة: رابعًا- الإنسان

مقالات وبحوث

القضايا الكلامية والتأملات الكونية كما تبدو في نهج البلاغة القضايا الكلامية المتعلقة بالعقيدة: رابعًا- الإنسان

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 04-08-2025

بقلم: د. جليل منصور العريَّض

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:
استوعبت قضايا خلق الإنسان ونشاته، ووصف انفعالاته ومصيره، على جزء كبير من فكر علي عليه السلام، وقد عالجها من منظور اسلامي بحت، وذلك تمشيا مع منهجه الارشادي كقائد ومرشد، ويمكن استنتاج هذا الجانب من فكره بتتبعنا النقاط التالية:

أ- خلق الإنسان[1]:
لا يكاد فكر علي عليه السلام يخرج عن المنهج الذي رسمه القرآن الكريم لخلق الإنسان، الا في بعض التفاصيل التي يمكن اعتبارها تفسيرات وتوضيحات لجوانب أجملها القرآن الكريم، منها انه جعل خلق الأرض اسبق من خلق الإنسان كما في قوله «ثم جمع من حزن الأرض وسهلها وعذبها وسبخها تربة سنها بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلة حتى لزبت، فجعل منها صورة ذات احناء ووصول واعضاء وفصول، اجمدها حتى استمسكت واصلدها حتى صلصلت لوقت معدود، وامد معلوم. ثم نفخ فيها من روحه، فتمثلت انسانا ذا اذهان يجيلها، وفكر يتصرف بها، وجوارح يختدمها، وادوات يقلبها، ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل»[2] فعلي عليه السلام قد اقتبس كل افكاره من الذكر الحكيم كما استعار أيضاً بعض الفاظه، كما في قوله «سنها بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلة حتى لزبت»[3] فكثير من الفاظه مستعار من قوله تعالى:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[4] وقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ}[5] ويمكن الاستنتاج من تقديم علي عليه السلام لخلق الأرض على خلق الإنسان عدة معان، منها ما هو مبني على اختلاط انواع التربة التي خلق الله منها الإنسان وقد بينا جانبا من ذلك فيما سبق[6]. ومنها ما هو مستخلص من قوله بالوان التربة التي عجنت منها طينة الإنسان[7]، وهو السبب في تباين الوان الجنس البشري. ومنها ما هو مبني على فكرة خلق الله سبحانه وتعالى البيئة الملائمة لكل مخلوق من مخلوقاته، فالبيئة الصالحة لعيش الإنسان، هي الأرض التي عجن من طينها.

ب- أصل العصبية:
إن قصة سجود الملائكة لآدم، بناء على أمر الله، وتمرد إبليس على ذلك الأمر، قد ذكرها القرآن الكريم بتفاصيلها، وقد عزا إبليس عدم امتثاله لأمر السجود، إلى أنه مخلوق من نار فهو افضل من آدم المخلوق من طين، مع ان الله سبحانه لم يقل بالتفريق في حكمه بين خلقه كما يقول علي عليه السلام، فإن «حكمه في أهل السماء، واهل الأرض لواحد»[8] لذلك اعتبر قول إبليس بالمفاضلة هو مصدر العصبية واصل الحمية التي يمقتها الرب، فإبليس في فكر على عليه السلام هو «امام المتعصبين، وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية»[9]ـ وتعصبه ذلك جعله يمقت آدم، ويحقد عليه منزلته عند الله، فأغواه وزين له المعصية فالعناصر الرئيسية للقصة موجودة في القرآن الكريم، إلا أن علياً عليه السلام قد وظّفها توظيفاً فكريا فحواه ان العصبية للجنس خارجة عن طبيعة الإنسان الخيرة وقد اكتسبها من جريه وارء اهوائه المتمثلة في إبليس.

ج- إهباط آدم إلى الأرض:
إن ما يمكن استنتاجه من فكر علي عليه السلام، هو أن أمر الله آدم بالنزول إلى الأرض، لم يكن جزاء الزلة التي اقترفها بمعصيته لله سبحانه، لأنه سبحانه قد تاب عليه قبل امره بالنزول، وهذا ما يمكن فهمه من قوله: «ثم بسط الله سبحانه له في توبته، ولقاه كلمة رحمته، ووعده المرد إلى جنته، وأهبطه إلى دار البلية وتناسل الذرية»[10]، وهو التفسير المنطقي السليم لما وورد بشأن ذلك في القرآن الكريم ـ كما نعتقد ـ لا كما قال ابن أبي الحديد «أن ذلك أحد قولي المفسرين»[11] لأنه قد عد الأمر الأول بالإهباط في قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ}[12] انه قد حدث قبل التوبة، ولكن الآية الكريمة في سياقها التام، بضمها إلى ما قبلها توحي بأن لا تناقض بينهما وبين غيرها من الآيات التي قالت بحدوث التوبة قبل الأمر بالإهباط بدليل قوله تعالى:

{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا}[13] وهو على تأويل الفخر الرازي «إن آدم وحواء، لما أتيا الزلة، أُمرا بالهبوط فتابا بعد الأمر بالهبوط. فأعاد الله تعالى الأمر بالهبوط مرة ثانية، ليعلما أن الأمر بالهبوط ما كان جزاء على ارتكاب الزلة... بل الأمر بالهبوط باق بعد التوبة، لأن الأمر كان تحقيقاً للوعد المتقدم عليه في قوله:

{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}[14]. وعلى هذا فاهباط آدم إلى الأرض ـ كما يبدو في فكر علي عليه السلام ـ هو متسق مع فكرته القائلة بخلق الإنسان من مختلف تربة الأرض، لتلائم عيشه في كل بيئاتها المتخلفة، هذا بالإضافة إلى ان نظرة علي عليه السلام المؤمنة لا تتسق والقول: بأن الاهباط إلى الأرض هو لمجرد المعقاب، لأن العقاب لا يستحقه الا المذنب ذاته، ولا دخل لذريته ممن لم يرتكب اثما لتشملهم نتيجة الذنب، لأن ذلك يتنافى وعدل الباري الذي مثله قول علي عليه السلام «ارتفع عن ظلم عباده»[15]

د- مميزات الإنسان:
يتميز الإنسان في فكر علي عليه السلام بظاهرتين متقابلتين هما القوة والضعف. فهو من ناحية أولى، يعتبره من أقوى مخلوقات الله على وجه الأرض، إذا ما قورنت امكاناته العقلية والجسدية بكل ما في الوجود من خلق، بما في ذلك قوى الطبيعة، ويمكن استخلاص ذلك من قوله «أشد الأشياء الإنسان، لأن أشدها ـ فيما يرى ـ الجبل والحديد ينحت الجبل، والنار تأكل الحديد، والماء يطفئ النار، والسحاب يحمل الماء، والريح تفرق السحاب، والإنسان يتقي الريح»[16] أي بإمكانه السيطرة على كل شيء في الطبيعة، وتسخيره لحاجته، وذلك بقوة عقله، ولولا ذلك ما استطاع ان يحافظ على بقائه عبر العصور المختلفة، ولكان مصيره الانقراض، فالقوة بمعناها العام كما نستخلصها من مقولة علي عليه السلام هي حاجة غريزية وضرورية، لإثبات الوجود والمحافظة على بقاء النوع، والتدرج في مراقي الكمال.

وفي مقابل هذه القوة، فإن الإنسان من الضعف بحيث لا يمكنه دفع غائلة الموت عن نفسه، ليس ادل على ذلك من أن أتفه الأشياء واحقرها تؤثر فيه، وقد تقضي عليه، وفي هذا يقول علي عليه السلام «مسكين ابن آدم، مكتوم الأجل، مكنون العلل، محفوظ العمل، تؤلمه البقة وتقتله الشرقة وتنتنه العرقة»[17].

وهذا التقابل بين القوة والضعف، ليس خارجا عن طبيعة الإنسان لأنه ـ كما يرى علي عليه السلام ـ قد خُلق وجوانحه تنطوي على أنواع مختلفة من التضاد العجيب، لأن النفس الإنسانية لا تستقر على حال ولا يرضيها نمط معين من العيش، ويعبر علي عليه السلام عن فكره ذاك بقوله «لقد عُلّق بنياط هذا الإنسان بضعة هي اعجب ما فيه، وذلك القلب، وله مواد من الحكمة واضداد من خلافها فإن سمح له الرجاء أذله الطمع، وان هاج به الطمع أهلكه الحرص، وان ملكه اليأس قتله الأسى وان عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وان اسعده الرضى نسي التحفظ...»[18] وهكذا، فالنفس الإنسانية في شغل دائم، وجهد مستمر بين أمل ورجاء وحزن وفرح، مع محاولة حثيثة لمعرفة المصير، والجري وراءه في ذهول أو محاولة التهرب منه بالتغافل عنه ولكن لابد من موافاته، لأنه القدر الحتمي كما نستخلص ذلك من فكر علي عليه السلام)([19]).

الهوامش:
[1] حول قضية ابتداء خلق البشر في رأي فلاسفة المسلمين القدامى وغيرهم من أصحاب الديانات الاخرى يمكن مراجعة ـ شرح ابن أبي الحديد 1/30 وما بعدها.
[2] خطب ـ 1 ـ فقرة ـ4.
[3] خطب ـ 1ـ فقرة ـ 4.
[4] الحجر /26.
[5] الصافات/11.
[6] راجع ص 422 من هذا البحث.
[7] راجع المعنى في: خطب 1 ـ فقرة 4.
[8] خطب ـ 240 ـ فقرة 5، 2.
[9] المصدر السابق.
[10] خطب ـ 1ـ فقرة 4.
[11] شرح ابن أبي الحديد 1/102.
[12] البقرة /36.
[13] البقرة، 37 ، 38.
[14] تفسير الفخر الرازي 3/28 والآية ضمن المقولة: البقرة/30.
[15] خطب ـ 33ـ فقرة ـ1.
[16] شرح ابن أبي الحديد 20/280.
[17] حكم ـ 427.
[18] حكم ـ 107.
([19]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 524-530.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.1164 Seconds