بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
يَا لَه مَرَاماً مَا أَبْعَدَه! وزَوْراً مَا أَغْفَلَه! -إلى أن يقول (عليه السلام)- فَكَمْ أَكَلَتِ الأَرْضُ مِنْ عَزِيزِ جَسَدٍ، وأَنِيقِ لَوْنٍ، كَانَ فِي الدُّنْيَا غَذِيَّ تَرَفٍ ورَبِيبَ شَرَفٍ! يَتَعَلَّلُ بِالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِه، ويَفْزَعُ إِلَى السَّلْوَةِ إِنْ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِه، ضَنّاً بِغَضَارَةِ عَيْشِه وشَحَاحَةً بِلَهْوِه ولَعِبِه فَبَيْنَا هُوَ يَضْحَكُ إِلَى الدُّنْيَا وتَضْحَكُ إِلَيْه فِي ظِلِّ عَيْشٍ غَفُولٍ إِذْ وَطِئَ الدَّهْرُ بِه حَسَكَه، ونَقَضَتِ الأَيَّامُ قُوَاه، ونَظَرَتْ إِلَيْه الْحُتُوفُ مِنْ كَثَبٍ، فَخَالَطَه بَثٌّ لَا يَعْرِفُه ونَجِيُّ هَمٍّ مَا كَانَ يَجِدُه، وتَوَلَّدَتْ فِيه فَتَرَاتُ عِلَلٍ آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِه، فَفَزِعَ إِلَى مَا كَانَ عَوَّدَه الأَطِبَّاءُ مِنْ تَسْكِينِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ وتَحْرِيكِ الْبَارِدِ بِالْحَارِّ، فَلَمْ يُطْفِئْ بِبَارِدٍ إِلَّا ثَوَّرَ حَرَارَةً، ولَا حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلَّا هَيَّجَ بُرُودَةً، ولَا اعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ إِلَّا أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاءٍ؛ حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُه، وذَهَلَ مُمَرِّضُه، وتَعَايَا أَهْلُه بِصِفَةِ دَائِه، وخَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّاِئِلينَ عَنْه، وتَنَازَعُوا دُونَه شَجِيَّ خَبَرٍ يَكْتُمُونَه، فَقَائِلٌ: يَقُولُ هُوَ لِمَا بِه ومُمَنٍّ لَهُمْ إِيَابَ عَافِيَتِه، ومُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِه، يُذَكِّرُهُمْ أُسَى الْمَاضِينَ مِنْ قَبْلِه، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ عَلَى جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا وتَرْكِ الأَحِبَّةِ، إِذْ عَرَضَ لَه عَارِضٌ مِنْ غُصَصِه، فَتَحَيَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِه ويَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِه، فَكَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِه عَرَفَه فَعَيَّ عَنْ رَدِّه، ودُعَاءٍ مُؤْلِمٍ بِقَلْبِه سَمِعَه فَتَصَامَّ عَنْه، مِنْ كَبِيرٍ كَانَ يُعَظِّمُه أَوْ صَغِيرٍ كَانَ يَرْحَمُه! وإِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ، أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْيَا([1])
شرح الألفاظ الغريبة:
ألهاه عن الشيء: صرفه عنه باللهو، أي صرفكم عن الله اللهو والتكاثر بمكاثرة بعضكم لبعض وتعديد كل منكم مزايا أسلافه؛ المرام: المطلب بمعنى المطلوب؛ الزور: - بالفتح – الزائرون؛ ما أغفله: أي ما أشد غفلته؛ الأنيق: رائق الحسن؛ الغذيّ: اسم بمعنى المفعول أي مغذي بالنعيم؛ الربيب: بمعنى المربى ربه يربه أي رباه؛ يتعدل: يتشاغل؛ السلوة: انصراف النفس عن الألم بتخيل اللذة؛ ضنّاً: أي بخلاً؛ غضارة العيش: طيبه؛ شحاحةً: بخلاً وضنّاً؛ عيش غفول: وصف العيش بالغفلة لأنه أذا كان هنيئاً يوجبها؛ الحسك نبات تعلق قشرته بصوف الغنم، ورقه كورق الرجلة أو أدق، وعند ورقه شوك ملزز صلب ذو ثلاث شعب، وهو تمثيل لمس الآلام؛ الحتوف: المهلكات، وأصل الحتف: الموت؛ كَثَبَ: - بالتحريك – أي قرب؛ خالطه الحزن: مازج خواطره؛ البث: الحزن؛ النجي: المناجي؛ الفترات: جمع فترة، وهي المدة من الزمن ويريد بفترات العلل أوائل السقم والمرض وانحطاط القوة؛ القارّ: - بتشديد الراء على زون اسم الفاعل – هنا البارد؛ اعتدل بممازج: أي طلب تعديل مزاجه بدواء يمازج ما فيه من الطبائع؛ معلل المريض: من يسلبه عن مرضه بترجية الشفاء؛ تعايا أهله: اشتركوا في العجز عن وصف دائه؛ هو لما به: أي هو مملوك لعلته فهو هالك؛ المُمَنّي: مخيل الأمنية؛ الإياب: الرجوع؛ أسى جمع أسوة؛ نوافذ الفطنة: ما كان من أفكار نافذة أي مصيبة للحقيقة؛ عَيّ: عجز لضعف القوة المحركة للسانه؛ الغَمَرات: الشدائد، ويريد بها سكرات الموت؛ تعتدل على عقولهم: أي تستقيم عليها بالقبول والإدراك([2]).
الشرح:
اللّام في قوله: ((ياله)) لام الجر للتعجب كقولهم: يا للدواهي، والجار والمجرور في محل النصب لأنه لمنادى، ويروى: ((يا مراما)): ومراماً وخطراً منصوبات على التمييز لمعنى التعجب من بعد ذلك المرام وهو التكاثر فإنّ الغاية المطلوبة منه لا يدركها الإنسان لأن كل غاية بلغها ففوقها غاية أخرى قد أدركها غيره فنفسه تطمح إليها، وذلك التعجب من شده غفلة الزور: أي الزائرين للمقابر لأن الكلام خرج بسبب الآية وظاهر أن غفلة الإنسان عما يزور ويقدم بعد تلك الزيارة عليه غفلة عظيمة وهي محل التعجب، وكذلك التعجب من فظاعة الخطر والإشراف على شدائد الآخرة فإن كل خطر دنيائي يستحقر في جنبه.
قوله: ((الغذي)) فعيل بمعنى مفعول: أي مغذي بالترف.
وقوله: ((ويفزع إلى السلوة)): أي عن المصيبة النازلة له إلى المسرات والمتنزهات، ((وضحكه إلى الدنيا)) كناية عن ابتهاجه بها، وما فيها من القينات وغاية إقباله عليه لأن غاية المبتهج بالشيء أن يضحك له، وكذلك ضحك الدنيا مجاز في إقبالها عليه إطلاقاً لاسم السبب الغائي على مسببه، وأصل بينا بين والألف عن إشباع الفتحة، ((العيش الغفول)): الذي يكثر الغفلة فيه لطيبه، واستعار لفظ ((الحسك)) اللآلام والأمراض ومصائب الدهر، ووجه المشابهة استلزامها للأذى كاستلزام الحسك له، ورشح بذكر الوطي، وكذلك استعار وصف النظر لإقبال الحتوف إليه لاستعداد لها فشابهت في ذلك الراصد للشيء المصوب إليه نظره ليقتنصه، ((والبث والنجيّ)) من الهم الحال التي يجدها الإنسان عند وهم الموت من الوسواس والتخيلات والغموم والأحزان التي لم تكن تعرض له.
وقوله: ((فتولدت فيه فترات علل آنس ما كان بصحته)): وانتصاب آنس على الحال، وما بمعنى الزمان، وكان تامة، وبصحته متعلق بآنس: أي حال ما هو آنس زمان مدة صحته، وقيل: ما مصدرية، والتقدير آنس كونه على أحواله لصحته.
وقوله: ((فلم يطفئ ببارد إلا ثور حرارة...)) إلى قوله: ((ذات داء)): إشارة إلى لوازم العلاج عند سقوطه العلة من المرض الحارة والباردة المقاوم لها، وليس العلاج بالبارد هو المثور للحرارة ولا بالعكس؛ لأن الدواء معين للطبيعة على مقاومة المرض فلا يكون مثوراً له ولكن ما كان مع ذلك العلاج وتلك الإعانة لغلب الحرارة والبرودة ويظهر بسبب ذلك: أي الدواء.
وكذلك قوله: ((ولا اعتدال بممازج لتلك الطبائع إلا أمد منها كل ذات داء)): أي ولا اعتدال المريض في علاجه نفسه بما يمازج تلك الطبائع من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة إلا كان مادة لداء، وليس مادة على الحقيقة ولكن لما كان يغلب معه المرض على القوة فكأنه مادة له فنسب إليه وهي أمور عرفية يقال كثيراً، والكلام فيها على المتعارف.
وقوله: ((حتى فتر معلله)): غاية تلك اللوازم، ومعلله: طبيبه وممرضه، ((وخرس أهله عن جواب السائل)): إشارة إلى سكوتهم عند السؤال من حاله، وذلك أنهم لا يخبرون عن عافية ل عدمها، وتكره نفوسهم الإخبار عنه بما هو عليه من الحال لشدتها عليهم، فيكون شأنهم في ذلك السكوت عن حاله المشبه للخرس في جوابه، فذلك استعارة له.
وقوله: ((وتنازعوا...)) إلى قوله: ((من قبله)): إشارة إلى ما يتحاوره أهل المريض المشرف على الموت من أحواله وصوره بما العادة جارية أن يقولوه.
وقوله: ((فبينا هو كذلك)): صفة حال الأخذ في الموت المعتاد للناس.
وقوله: ((إنّ للموت...)) إلى آخره: تلك الغمرات وكونها، أفظع من أن يحيط بها وصف الإنسان أو يستقيم شرحها على الإنسان كما يخبر عليه السلام.
ويعلم ذلك على سبيل الجملة وبالحدس والقياس إلى الأمراض الصعبة التي يمارسها الناس ويشتد عليهم فيعرف عند مقاساتها ومعاناة شدائدها، وكان صلى الله عليه وآله يقول في سكرات موته: اللهم أعني على سكرات الموت.
وما يستعين عليه الرسول صلى الله عليه وآله مع كال اتصاله بالعالم الأعلى فلا شك في شدته. وبالله التوفيق)([3]).
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة لصبحي صالح: 338-341/ من كلام له رقم 221، ونهج البلاغة للشيخ العطار: 450-451/ من كلام له رقم 220، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم 4: 55-58/ من كلام له رقم 212، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 466-473.
([2]) شرح الألفاظ الغريبة: 667-668.
([3]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 324-329.