القضايا الكلامية والتأملات الكونية كما تبدو في نهج البلاغة التأمل وتداعي الأفكار، والغيبيات، كما تبدو في فكر علي (عليه السلام): المهدي المنتظر (عليه السلام) كما يبدو في فكر علي (عليه السلام)

مقالات وبحوث

القضايا الكلامية والتأملات الكونية كما تبدو في نهج البلاغة التأمل وتداعي الأفكار، والغيبيات، كما تبدو في فكر علي (عليه السلام): المهدي المنتظر (عليه السلام) كما يبدو في فكر علي (عليه السلام)

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 03-11-2025

بقلم: د. جليل منصور العريَّض

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:
من ضمن قضايا التنبؤ بالمستقبليات التي عرض إليها علي عليه السلام في النهج، وصف مُصلح يظهر بعد فتن تنشب في كل مكان يستغيث الناس من شرورها، حيث تسفك الدماء، وينبذ القرآن، ويعمل بالرأي، ويتبدد المسلمون هلعا وخوفا في أقاصي البلاد، من ذلك قوله «يعطف الهوى على الهدى، إذا عطفوا الهدى على الهوى ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي، حتى تقوم الحرب بكم على ساق، باديا نواجذها، مملوءة اخلافها، حلوا رضاعها، علقما عاقبتها، إلا وفي غد ـ وسيأتي غد بما لا تعرفون ـ يأخذ الوالي من غيرها عمالها على مساوئ أعمالها، وتخرج له الأرض أفاليذ كبدها، وتلقي إليه سلما مقاليدها، فيريكم كيف عدل السيرة ويحي ميت الكتاب والسنة»([1]). فكل من تناول فحوى المقولة من شراح النهج متفق على أن عليا عليه السلام يقصد منها، وصف أمام منتظر، أو قائم ينادي العمل بالقرآن، وأحياء السنة([2]) إلا أن وجهة نظر الشيعة حول ظهور ذلك القائم تختلف عنها عند المعتزلة الذين يرون كما يقول ابن أبي الحديد «أن في ذلك إشارة إلى إمام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان»([3])، بينما يرى الشيعة الإمامية أنه قد عنى بذلك الإمام المنتظر فحسب، وهو عندهم الثاني عشر الغائب، والموجود بين ظهراني الناس([4])، والذي لابد من أن يعلن عن نفسه يوما ما ليملأ الدنيا عدلا، بعد ان ملئت ظلما وجورا، فالمهدية كعقيدة، موجودة في فكر علي عليه السلام كما نعتقد، خاصة انه يرى ان الائمة المصلحين موجودون في كل عصر، بهدف تبصير الناس بأمور دينهم ودنياهم، حتى لا تكون للناس حدة على الله، من ذلك قوله، «اللهم بلى، لا تخلوا الأرض من قائم بحجة، إما ظاهرا مشهورا، أو خائفا مغمورا»([5])، ومهما يكن أولئك الذين يعنيهم علي عليه السلام ، سواء أكانوا الأئمة عند الشيعة، أم أنهم «الأبدال الذين وردت الأخبار النبوية عنهم، أنهم في الأرض سائحون، فمنهم من يعرف ومنهم من لا يعرف»([6]) كما يرى المعتزلة حسب تفسير ابن أبي الحديد، فإن الفكرة تتضمن تصريح بوجوب الإمامة في كل زمان حتى قيام الساعة، فإذا ما أخذنا مأثورات علي عليه السلام في المهدية، كلها في سياق واحد، ونظرنا إليها من خلال بنائها الفكري سنجد أن هذه النصوص تتبلور في عناصر أهمها:

1ـ إن الله سبحانه وتعالى لا يخلي الأرض من قائم مطلق بأمور الدين في أي زمان، وأي مكان، إذ لابد من وجود ذلك المصلح الظاهر المعلن عن نفسه في حالة شهوره بالأمان([7])، أو الداعي إلى شريعة السماء في السر في حالة سيطرة الجبابرة والطغاة على مقاليد الأمور وهيمنهم على مصائر الناس بالقوة والقهر والظلم.

2ـ إنه إذا عرف الإنسان إمام وقته، فلابد له من محاولة الرجوع إليه لأخذ أمور دينه عنه، والاستجابة لتلبية ندائه في حالة الحاجة لمواجهة أعداء الدين والظالمين من الأمراء والسلاطين، ويمكن الوصول إلى فكرته تلك من قوله «والهجرة قائمة على حدها الأول، ما كان لله في أهل الأرض حاجة من مستسر الأمة، ومعلنها. ولا يقع اسم الهجرة على أحد، إلا بمعرفة الحجة في الأرض، فمن عرفها وأقر بها فهو مهاجر([8]) مع ملاحظة أن عليا عليه السلام قد أشار إلى ضرورة الهجرة، وهو لا يعني بها الهجرة من مكة إلى المدينة، لأن تلك الهجرة قد بطلت بعد الفتح، بناء على قول الرسول صلى الله عليه وآله «لا هجرة بعد فتح مكة»([9]) ولكنه يعني بالهجرة إلى إمام الوقت كأساس تجمعي كان هو في حاجة إليه، للوقوف في وجه الخارجين عن سلطته، على اعتبار نفسه وآل بيته عليهم السلام هم الذين أوكل الله إليهم حماية الدين بعد الرسول صلى الله عليه وآله ([10]).

انه برغم الاضطهاد والظلم اللذين وقعا على آل البيت عليهم السلام، فإن الله سبحانه سيعيدهم إلى المكانة التي بوأهم إياها بفضل إيمانهم وصبرهم، ويفهم ذلك من قوله «لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها، عطف الضروس على ولدها»([11])وتلا عقب ذلك {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}([12]). فالمهدي المنتظر عليه السلام المبشّر به، كما يبدو لنا في فكر علي عليه السلام من آل البيت عليهم السلام ، وهو ما تضمنه قوله «يا قوم هذا تضمنه منا ابان ورود كل موعود، ودنو طلعة ما لا تعرفون، ألا وأن منا أدركها منا يرى فيها بسراج منير، ويحذو فيها على مثال الصالحين، ليحل فيها ربقا، ويعتق فيها رقا، ويصدع شعبا، ويشعب صدعا في سترة عن الناس، لا يبصر القائف اثره، ولو تابع نظره»([13]).

4ـ إنه لن يكون ظهوره إلا بعد فتن ناتجة عن ظلم العباد واستحرار القتل فيهم، ويكون ظهوره ناهية ذلك الظلم([14]) واستتاب الأمن والرجوع إلى الدين على أصوله الأولى التي جاءت بها رسالة محمد صلى الله عليه وآله ، فيعم الرخاء جراء ذلك كل أرجاء المعمورة.

فعقيدة المهدي المنتظر عليه السلام ـ كما نتصورها من خلال فكر علي عليه السلام ـ لا تكاد تبتعد في مفهومها عما بشر به القرآن الكريم من مستقبل سعيد للإنسانية في ظل الإيمان. كما في قوله تعالى: {وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}([15])، وعما جاء بشأنها في السنة النبوية المطهرة، كما في قوله صلى الله عليه وآله «أبشركم بالمهدي يبعث على اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جورا، وظلما، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض...»([16]) إلا أن عليا عليه السلام لم يذكر ضمن نصوص النهج التي جاءت في المهدي، لا صفاته ولا شكله([17]) كما هو موجود فيما أثر عن الرسول صلى الله عليه وآله من حديث([18]).

تلك هي إذن أهم القضايا الغيبية والأخرى الماورائية التي استخلصناها من فكر علي عليه السلام ، وهي على ما تبدو لم تكن لمجرد الجنوح إلى استعراض فلسفة ما أو لأخذ الفكر الإنساني نحو اتجاه جدلي معين من أجل مناصرة فرقة معينة، لأنها -كما نتصورها- دعوة صادقة إلى التمسك بالدين والرجوع إلى طريق الإيمان، في كل الأحوال، وتحت كل الظروف، لأن العاقبة ـ كما يراها علي عليه السلام ـ لابد أن تكون في صالح المتقين المؤمنين الذين ينظرون إلى الدنيا نظرة تختلف في مفهومها عما ينظر إليها غيرهم من الناس(([19]).

الهوامش:
([1]) خطب ـ 137 ـ فقرة 1، 2، ويعطف الهوى على الهدى يقهر الهوى وهو العمل بالراي ويثنيه ويجعله منقادا إلى العمل بهدي القرآن والسنة وكذلك قوله: يعطف الرأي على القرآن ـ أي يقهره بتغليب حكم القرآن عليه، والساق الشدة، والنواجد أقضى الأضراس وهو كناية عن بلوغ الحرب شدتها، ومملوءة اخلافها، والاخلاف جمع خلف: حلمات ضرع الناقة، وهو كناية عن اشتداد الفتن، وعلقم عاقبتها: أي مرة نهايتها والعاقبة هي النهاية، وقوله «يأخذ الوالي... أعمالها» أي أن الإمام المنتظر(عليه السلام) يأخذ العمال والأمراء على سوء أعمالهم ويعاقبهم بها، والأفاليذ جمع فلذ، وهو كناية عن الكنوز التي تظهر للقائم.
([2]) راجع ـ الراوندي ـ منهاج البراعة 2/62، شرح ابن أبي الحديد 9/40، شرح ميثم البحراني 3/168ـ محمد عبده ـ شرح النهج هامش 249 ط الأندلس.
([3]) شرح النهج 9/40.
([4]) للاطلاع على عقيدة الإمامية في المهدي المنتظر (عليه السلام)، راجع ـ رسائل الشريف المرتضى 2/293 حتى 297.
([5]) حكم ـ 145 ـ فقرة 6.
([6]) شرح النهج 18/351.
([7]) راجع حكم ـ 145 ـ فقرة 6.
([8]) خطب ـ 237 ـ فقرة2 والامة ـ بكسر الهمزة ـ الحالة.
([9]) سنن النسائي 7/146.
([10]) راجع الخطبة 86ـ فقرة ـ 3، 4.
([11]) حكم ـ 207ـ الشماس ـ بكسر الشين، امتناع ظهر الدابة عن الركوب، والضروس ـ بفتح فضم ـ الناقة السيئة الخلق التي تعصى حالبها.
([12]) القصص/5.
([13]) خطب ـ 150 ـ فقرة 1ـ ابان ـ بكسر فتشديد ـ وقت، ودنو ـ قرب، ومنا ـ يعني بالضمير فيه من آل البيت وهو المهدي المنتظر (عليه السلام)، ليحل ربقا ـ يفك الناس من أسر الاستغلال والربق ـ بكسر الراء وسكون الباء، هو حبل فيه عدة عرق يوضع في رقاب العبيد، ويصدع شعبا ويشعب صدعا، يفرق جمع الضلال ويجمع متفرق الحق، القائف الخبير بمعرفة الإثارة، والقيافة ـ علم تتبع إثارة المشاة من إنسان وحيوان في الصحراء وهو من أشهر علوم العرب.
([14]) راجع خطب ـ 138 ـ فقرة 2.
([15]) النور /55.
([16]) الهيثمي ـ مجمع الزوائد 7/316، رواه الترمذي وغيره باختصار كثير، ورواه أحمد بأسانيد، وأبو بعلى باختصار كثير ورجالهما ثقات.
([17]) ان عدم ورود نصوص تتحدث عن صفات المهدي في نهج البلاغة لا يعني ان عليا (عليه السلام) لم يتطرق إلى ذلك، فنهج البلاغة لم يجمع كل ما أثر عن علي (عليه السلام) من اقوال، ففي اصول الكافي 1/339 وما بعدها ـ احد مصادر الحديث عند الشيعة الإمامية احاديث وخطب لعلي (عليه السلام)، يذكر فيها صفات المهدي وكيفية ظهوره.
([18]) راجع المقدسي ـ عقد الدر في اخبار المنتظر ص 16، 24.
([19]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 550-555.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.0966 Seconds