بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
وَاللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، وَأَجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا؟! إلى أن يقول (عليه السلام): - وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفُوفَةٍ فِي وِعَائِهَا، وَمَعْجُونَةٍ شَنِئْتُهَا كَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ أَوْ قَيْئِهَا، فَقُلْتُ: أَصِلَةٌ، أَمْ زَكَاةٌ، أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ! فَقَالَ: لَا ذَا وَلَا ذَاكَ، وَلَكِنَّهَا هَدِيَّةٌ، فَقُلْتُ: هَبِلَتْكَ الْهَبُولُ، أَعَنْ دِينِ اللَّهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي؟! أَمُخْتَبِطُ أَمْ ذُو جِنَّةٍ، أَمْ تَهْجُرُ؟ وَاللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَىٰ أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ، وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا، مَا لِعَلِيٌّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى وَلَذَّةٍ لَا تَبْقَى، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَقُبْحِ الزَّلَلِ، وَبِهِ نَسْتَعِينُ([1]) .
شرح الألفاظ الغريبة:
كأنه يريد من «الحَسَك» الشوك؛ السعدان: نبت ترعاه الإبل له شوك تشبه به حلمة الثدي؛ المُسَهّد: من سهده، إذا أسهره؛ والمصفّد: المقيد؛ قفولها: رجوعها؛ الثرى: التراب؛ الملفوفة: نوع من الحلواء أهداها الأشعث بن قيس إلى عليّ: شنئتها: أي كرهتها؛ الصلة: العطية؛ جلب الشعيرة: - بضمّ الجيم - قشرتها، وأصل الجلب غطاء الرحل فتجوز في إطلاقه على غطاء الحبة؛ قَضِمَتِ الدابة الشعير - من باب عَلِمَ -: كسرته بأطراف أسنانها: سُبات العقل: نومه؛ والزلل: السقوط في الخطأ([2]) .
الشرح:
غرض الفصل التبري من الظلم، وذلك أن أحدهم كان يأتيه فيسأله العطاء وهو (عليه السلام) لم يكن ليستبقي لنفسه شيئاً، ولا يرى أن يعطي من بيت المال أحداً دون غيره فيحرمه، وربما كان في غاية الحاجة فينسبه إلى الظلم والتخصيص بالمال دونه فتبرأ بهذا الكلام مما نسب إليه من ذلك.
فقوله: «والله ..» إلى قوله: «الحطام»: بيان المقدار نفرته عن الظلم وغايتها. وعلة ترجيحه أو اختياره لأحد الأمرين المذكورين على الظلم مع ما يستلزمانه من التألم والعذاب أن ما يستلزمه الظلم من عذاب الله أشد خصوصاً في حق من نظر بعين بصيرته تفاوت العذابين، مؤكداً لذلك البيان بالقسم البار. ولفظ «الحطام» مستعار المتاع الدنيا باعتبار حقارته، وأصله ما تكسر من نبت الأرض، وظالماً وغاصباً حالان.
وقوله: «وكيف ..» إلى قوله: «حلولها»: استفهام عن وجه ظلمه لأحد استفهام إنكار على من نسب إليه ذلك مع ذكر سببين يمنعان العاقل من الظلم؛ وهما الرجوع إلى البلى من السفر في الدنيا، وطول الحلول في الثرى.
وقوله: «وأعجب من ذلك ..» إلى قوله: «أم تهجر»: أي وأعجب من عقيل وحاله طارق طرقنا، والطارق: الآتي ليلاً، وكنى بالملفوفة في وعائها عن الهدية، وقيل: كان شيئاً من الحلواء كالفالوذق أو الحنبص ونحوه.
ونبه بقوله: «شنئتها» على بغضه للأمور اللذيذة الدنيوية ونفرته عنها زهداً فيها، ووجه تشبيهها بما عجن بريق الحية أو قيئها هو ما في تصوره في قبولها من الفساد وما قصد بها مهديها في طلب الميل إليه المستلزم للظلم والجور عن سبيل الله فإن القصد الذي اشتمل عليه كالسم المهلك، وأما كون وجه كون المهدي أعجب من عقيل فلأن عقيلاً جاء بثلاث وسائل كل منها يستلزم العاطفة عليه: وهي الأخوة والفاقة، وكونه ذا حق في بيت المال، وهذا المهدي إنما أدلى بهديته.
فأما قوله في جوابه: «فقلت..» إلى قوله: «أهل البيت»: فإنه أراد به حصر وجوب البر في العرف لأنّ التقرب إلى الله ببذل المال لعباده، إما صلة رحم أولاً، والثاني: فإما على وجه الصدقة أو الزكاة الواجبة ولم يذكر الهدية لأنه لم يكن في وهم العاقل قبول علي (عليه السلام) لها خصوصاً زمان خلافته، وذلك أن مطلوب العاقل منه بالهدية إما حق أو باطل، والحق لا يحتاج إلى الهدية والباطل لا يفعله بوجه، ولذلك لما قال له الطارق: إنها هدية. دعا عليه ونسبه إلى الجنون والهذيان، ولما قسم عليه وجوب البر أبطل قسمين منها، بقوله: «فذلك محرم علينا أهل البيت» وأراد الصدقة والزكاة.
وأما صلة الرحم فلم يحتج إلى إبطالها؛ لأن الطارق لم يكن ذا رحم له، وقول الطارق: لا هذا ولا ذاك، يجري في مجرى إبطال الحصر بإبراز قسم رابع هو الهدية.
وقوله: «هبلتك الهبول ..» إلى قوله: «تهجر»: جواب لقوله: ولكنها هدية، قرر عليه فيه ما فهمه من غرضه بالهدية وهو خداعه عن دينه؛ إذ الهدية لغرض حرام صورة استغرار وخداع، وذكر الخداع عن الدين تنفيراً لصاحب الهدية عن فعله ذلك، ولما كان ذلك الأمر لو تتم الغرض به استلزم نقصان الدين كالخداع عن الدين فأطلق عليه لفظة الخداع استعارة.
وقوله: «أمختبط أم ذو جنّة أم تهجر»: استفهام على سبيل الإنكار والتوبيخ على ذلك الخداع بعد تقريره عليه، إذ كان المخادع المثله (عليه السلام) عن دينه لا يكون إلا على أحد الوجوه المذكورة غالباً، ولا يتصوّر أن يصدر منه ذلك الخداع عن رويّة صحيحة، وقد ذكر وجوه الخروج عن الصواب مما يتعلق بالعقل.
وقوله: «والله ..» إلى قوله: «ما فعلت»: يحتمل أن يكون رداً لوهم الطارق فيه أنه يفعل مطلوبه الحرام بتلك الهدية، وإبطال لذلك الوهم عنه.
والأقاليم السبعة: أقسام الأرض، وهو دليل منه على غاية العدل.
وقوله: «وإن دنياكم..» إلى قوله: «تقضمها»: دليل على غاية الزهد منه في الدنيا كقوله في الشقشقية: «ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز»([3]) )([4]).
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة لصبحي صالح: ٣٤٦ - ٣٤٧ من كلام له (عليه السلام) رقم ٢٢٤، ونهج البلاغة للشيخ العطار: ٤٦١ - ٤٦٢ / من كلام له (عليه السلام) رقم ۲۲۳ ، وشرح النهج لابن ميثم ٤ : ٨٣ - ٨٤ / من كلام له (عليه السلام) رقم ۲۱۵ ، ونهج محمد عبده ١: ٤٧٩ - ٤٨١
([2]) شرح الألفاظ الغريبة: ٦٧٠.
([3]) شرح نهج البلاغة لابن ميثم ٤ ٤ - ٨٧ شرح كلام له رقم ٢١٥.
([4]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 339-342.