ثقافة العمل الجماعي في الإسلام

مقالات وبحوث

ثقافة العمل الجماعي في الإسلام

9K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 01-08-2019

علي جاسم محمد علي
الحمد لله حمدًا كثيرًا لا انقطاع له ولا أمد، وله الشكر دائماً سرمدًا إلى الأبد، والصلاة والسلام على نعيمه علينا ومن أرسلهم رحمة إلينا محمد وآله الطيبين الطاهرين صلاة دائمة قائمة، وبعد..
إن بعثَ الله الأنبياء والرسل على مر العصور والأزمنة ما هو إلا لغرس القيم الإلهية والأخلاق في خلقه، لينتج مجتمع صالح ومتصالح ومتعايش تحت مظلة الفضائل الحسنة. وما كان من تعدد الأديان السماوية والبعثات النبوية إلا لما يطرأ على الخلق من متغيرات فكرية مختلفة يحتاج فيها إلى من يحتضن هذه المتغيرات. فختمها الله تعالى بمحمد وأمدها بآله (صلوات الله عليهم) فكانت الرسالة السماوية الشاملة والمرنة والمستوعبة لما آل ويؤول إليه من تلك المتغيرات الفكرية والتعقيدات المختلفة لدى الخلق، وإلى قيام الساعة.
ومن جملة هذه المتغيرات، التشعب والتعقيد في مختلف المجالات والأعمال وتداخلها مع بعضها. فكان الإسلام وهو الرائد في وضع الحلول لتلك التعقيدات واستيعابها وذلك عبر بث روح التعاون والتظافر في مواجهة ما يعتري الأفراد من مشكلات والتشجيع على العمل الجماعي، إذ نرتشف ذلك من قوله تعالى: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ))[1]. حيث يأمرنا الله سبحانه أن نتعاون على البر. وفي كل ما فيه خير وصلاح للمجتمع بشكل عام وضمن نطاق دائرة العمل المشترك بشكل خاص يعد من البر والتقوى.
وورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه (أمر أصحابه بذبح شاة في سفر، فقال رجل من القوم: عليَّ ذبحها، وقال الآخر: عليَّ سلخها، وقال آخر: عليَّ قطعها، وقال آخر: عليَّ طبخها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((عليَّ أن ألقط لكم الحطب)) فقالوا: يا رسول الله، لا تتعبنَّ ـ بآبائنا وأُمهاتنا ـ أنت، نحن نكفيك؟!. قال (صلى الله عليه وآله): ((عرفتُ أنّكم تكفوني، ولكن الله عزَّ وجلَّ يكره من عبده إذا كان مع أصحابه أن ينفرد من بينهم)) فقام (صلى الله عليه وآله) يلقط الحطب لهم)[2]. وبهذا يقدم لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو سيد الخلق أجمعين درسًا عمليًّا في العمل الجماعي.
ومن هنا نلاحظ أن الإمام علي (عليه السلام) وهو القرآن الناطق وسليل النبوة وامتدادها يحثنا على التعاون وعدم الفرقة والتمسك بالجماعة وذلك عبر ما ورد في نهج البلاغة من خطب وأقوال مختلفة منها قوله (عليه السلام): ((إِنَّ الشَّيْطَانَ يُسَنِّي[3] لَكُمْ طُرُقَه - ويُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً يُعْطِيَكُمْ بِالْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةَ - وبِالْفُرْقَةِ الْفِتْنَةَ))[4]، وهنا يحذرنا الإمام علي (عليه السلام) بأن الفرقة هي مما يحسّنه الشيطان ويسهّله على العباد وإياكم والغفلة من عواقبها ونتائجها ألا وهي الوقوع بالفتنة.
وتارة يؤكد الإمام (عليه السلام) بلزوم الجماعة فيقول: ((وَالْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةِ))[5].
ومن هنا نلحظ أهمية الجماعة والعمل كفريق واحد وضرورة بذل الجهد من أجلِ تحقيق التضافر والتماسك بين أعضاء فريق العمل الواحد. ومهما بلغ الفرد من قدرات ومهارات على انجاز الأعمال، وإن بلغ ما بلغ من الدرجات العالية أو بالعكس فلا يستغني عن العون ولا يستغنى عنه، فإنه لا يصل إلى ما يمكن الوصول إليه عن طريق الجماعة، ويوضح ذلك قول الإمام علي (عليه السلام): ((وَلَيْسَ امْرُؤٌ وإِنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُه - وتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُه - بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَه الله مِنْ حَقِّه - ولَا امْرُؤٌ وإِنْ صَغَّرَتْه النُّفُوسُ - واقْتَحَمَتْه الْعُيُونُ - بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْه))[6].
وعلى الرغم من أن هناك طُموحًا وأهدافًا ومقاصدَ يسعى كل من عمل عملًا إلى بلوغها، إلا أنه وفي ضوء هذه الأهداف يشذ البعض إلى السلوك في وادي الأنا والأنانية لتحقيق أهداف شخصية على حساب الهدف المشترك للمنظمة التي يعمل فيها، فتراه مرة يسلك طرقًا غير أخلاقية في الحصول على ضالته وتارةً أخرى يقفز عاليًا مستغلًا اكتاف الكادحين ليخطفَ ثمارَ جهدهم من دون مراعاة لما بذلوه...
وفي خضم هذهِ الممرات السلوكية الضيقة التي لا يمر بها سوى ضعافُ النفوس، يرشدنا الدين الحنيف إلى كيفية الارتقاء إلى كمالات روح التعاون وذلك عن طريق حب الخير للآخرين، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):  ((لا يُؤْمِنُ أَحَدَكُمْ حَتَّى يحب لأَخِيهِ مَا يحِبُهُ لِنَفْسِهِ))[7] حيث قرن النبي (صلى الله عليه وآله) الإيمان بحب الخير للآخرين، من هنا يتبلور لدى الإنسان حب الخير للآخرين ونكران الذات ومن ثَمَّ يتحقق العمل الجماعي ومساعدة الآخرين كما يحب أن يعامل من قبل الآخرين.
فمن هذا الخلق العظيم والتربية الإيمانية يمكن أن ننهل ثقافة العمل الجماعي مرتكزين على أقوال النبي وآله (صلوات الله عليهم) في الحث على حب الخير للآخر والتجرد من الأنانية وأن يجعل الإنسان نصب عينه الهدف المشترك مع زميله في العمل، وبهذا السلوك الرفيع والسمو الإنساني الفطري ترى روح التعاون والعمل الجماعي وتذويب الذات في الجماعة لهو من مسلمات نجاح أي مشروع يتحلى أصحابه بهذه الروح العالية المتعاونة واستمراره.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين...
الهوامش:
[1] سورة المائدة: الآية2.
[2] مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي، ص251.
[3] وسنّي له كذا : حسّنه وسهّله. شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني، ج3، ص115.
[4] نهج البلاغة: تحقيق صبحي الصالح، ص178.
[5] المصدر نفسه، ص211.
[6] المصدر نفسه، ص334.
[7] جامع السعادات: محمد مهدي النراقي، ص165

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2856 Seconds