متى تُقدَّس الأُمم؟

مقالات وبحوث

متى تُقدَّس الأُمم؟

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 14-11-2019

عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
وسام التقديس لا يُمنح، وإنَّما يصنعه العظماء، ولا يمكن أن يأتي من دون بذل الجهود على وفق أُطرٍ منظمة، وقد ينال الشخص التقديس الشخصي على المستوى الفردي فيما لو استقام وانتظم، ولكن أن تصبح أُمَّةٌ مقدَّسة فهذا أمر لا يُنال بسهولةٍ أبدًا؛ إذ يحتاج إلى تظافر الجهود والتعاون بين طبقات المجتمع جميعها، ويبقى الثقل الأكبر على الحاكم في خلق فناء التقديس لأمَّته، فهو العنصر الأكثر فعاليةً في منح أُمَّته وسام التقديس ورفعها عاليًا بين الأمم، بوصفه الفاعل الأكبر في انتظام مسيرة الحياة، والمؤثِّر الأكبر في صلاح المجتمع وإقامة الحقوق وتنفيذ الواجبات .
وتقديس الأمم ينهض بجملة معطياتٍ أهمُّها أنصاف الطبقات الضعيفة في المجتمع؛ بحيث تحصل على حقوقها بيسر وسهولة ومن دون بذل العناء في المطالبة والإلحاح في المراجعة، إذ غالبًا ما تكون الطبقات الضعيفة مسلوبة الحقوق من لدن الطبقات القوية ذات النفوذ في السلطة، ولذلك لا تنال الأمم قداستها حتَّى تكون الطبقات الضعيفة بمأمنٍ من الطبقات المتسلِّطة من حيث الحقوق والواجبات، وقد أسَّس لهذا المعنى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بقوله: ((لن تقدَّس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متعتع))([1])، والتعتعة: ((الْقَلَقُ وَالْإِكْرَاهُ، يُقَالُ: تَعْتَعَ الرَّجُلُ إِذَا تَبَلَّدَ فِي كَلَامِهِ، وَكُلُّ مَنْ أُكْرِهَ فِي شَيْءٍ حَتَّى يَقْلَقَ فَقَدَ تُعْتِعَ))([2])، فأمير المؤمنين (عليه السلام) يجعل حصول الأمَّة على ماهيَّة التقديس حصول الضعيف على حقوقه من غير قلقٍ أو إكراهٍ، وعلى أقلِّ المستويات وهي التعتعة في الكلام التي تنبع عن اضطراب لدى الشخص .
وهذا المنهج طبَّقه أمير المؤمنين (عليه السلام) عمليًّا في حكومته، وكان يقتصُّ بنفسه للضعيف من القوي، ويُتابع إنصاف المظلومين من ظالميهم، وممَّا يبرهن على ذلك أنَّ الكوفيين ذكروا ((أنَّ سعيد بن القيس الهمداني رآه يومًا في شدَّة الحر في فناء حائط؛ فقال: يا أمير المؤمنين بهذه الساعة ؟ قال: ما خرجت إلَّا لأعين مظلومًا أو أغيث ملهوفًا، فبينا هو كذلك إذ أتته امرأة قد خلع قلبها، لا تدري أين تأخذ من الدنيا حتَّى وقفت عليه، فقالت: يا أمير المؤمنين؛ ظلمني زوجي وتعدَّى عليَّ وحلف ليضربني فاذهب معي إليه، فطأطأ رأسه ثم رفعه وهو يقول: لا والله حتَّى يُؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، وأين منزلك؟ قالت: في موضع كذا وكذا، فانطلق معها حتَّى انتهت إلى منزلها، فقالت: هذا منزلي، قال: فسلَّم فخرج شاب عليه إزار ملونة فقال: اتَّق الله فقد أخفت زوجتك، فقال: وما أنت وذاك، والله لأحرقنَّها بالنار لكلامك، قال: وكان إذا ذهب إلى مكان أخذ الدُّرة بيده، والسيف معلق تحت يده، فمن حلَّ عليه حكم بالدُّرة ضربه، ومن حلَّ عليه حكم بالسيف عاجله، فلم يعلم الشاب إلَّا وقد أصلت السيف وقال له: آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر وترد المعروف تب وإلا قتلتك، قال: وأقبل الناس من السكك يسألون عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حتَّى وقفوا عليه، قال: فاسقط في يد الشاب وقال: يا أمير المؤمنين أعف عنِّي عفا الله عنك، والله لأكوننَّ أرضًا تطأني، فأمرها بالدخول إلى منزلها وانكفأ وهو يقول: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء: 114]، الحمد لله الذي أصلح بي بين مرأة وزوجها))([3]) .
فها هو أمير المؤمنين (عليه السلام) يتوسَّط المنازل في شدَّة الحر يراقب أمن البلاد وانتظام العباد، يبحث عن المظلوم حتَّى يقتصَّ له من ظالمه ويأخذ له بحقِّه، وبهذا الأسلوب نالت الأمَّة في عهده لباس القدَّاسة؛ لأنَّ الضعيف فيها حقوقه مصانة ومحفوظة . ومن هنا فإنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يعبِّد الطريق أمام الحكَّام في كيفيَّة صُنع أمجاد أُممهم، ورفها إلى مستوى التقديس الذي يجعلها محطَّ أنظار الأمم؛ لأنَّ الضعيف إذا أمن على حقوقه سادت العدالة في المجتمع، ولم يعد هناك مكانًا للمتسلِّطين في ممارسة جشعهم واستغلالهم؛ لأنَّ الضعفاء أصبحوا مصانين من لدن الحكومة، وبذلك فقد المتسلِّطون من يمارسون السلطة عليهم وهكذا يسود النظام وتصبح السيادة للقانون .
ولو نظرنا نظرة سريعة إلى حالنا المعاصر في أغلب المجتمعات الإسلامية لوجدنا أنَّ حقوق الضعيف هي أول الضحايا، ووجدنا أنَّ الضعيف يجاهد من أجل أن يحصل على بعض حقوقه، حتَّى يصل به الأمر إلى المخاطرة بنفسه من أجل استعادة شيء من حقوقه المسلوبة، وكل ذلك جاء نتيجة سيطرة طبقةٍ فاسدة من السُّراق الذين لا يردعهم دين أو خلق، ومن هنا فقدت أمَّتنا التقديس وستبقى هكذا مادام هؤلاء ممسكين بزمام السُّلطة ...
اللهمَّ لا تُسلِّط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا...
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 804 .
([2]) معجم مقاييس اللغة: 1/ 338 .
([3]) الاختصاص، الشيخ المفيد: 157 .

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.4152 Seconds