زين العابدين (عليه السلام)، والتعريف بعاشوراء

مقالات وبحوث

زين العابدين (عليه السلام)، والتعريف بعاشوراء

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 14-09-2020

خُطَى الخُزَاعي

الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ولا يحصي نعمائه العادّون ولا يؤدي حقه المجتهدون وأزكى صلواته وأتم سلامه على خير خلقه وأشرف رسله وآله أساس الدين وعماد اليقين..
رافق (عليه السَّلَام) ركب الإصلاح وهو على علّته، فشهد الحدث تفصيلًا ليشارك الشهداء عطاءً ولكن على نحو مختلف، بزغ فجر إمامته عند ظهيرة عاشوراء مؤذنًا بها احتزاز نحر، فقارعة سنابك فاحشة، استهل إمامته على مشتبك من ألسنة نار وسياط، أمَّا الديباجة فكانت خُطى حفرت على درب أسر فتغلبت على علة وجامعة ورزية حين تحالفن على نهش ثباتها وإعفاء أثرها.
اتخذ إمامنا زين العابدين من قضية الإمام الحسين (صلوات الله عليهما) محورًا هامًا في منهجية دوره، فوظفها توظيفًا إيجابيًا جعل منها خصبة النتاج دائمة العطاء، فكان (صلوات الله عليه) يستحضرها في أغلب الأحيان حتى لكأنَّها دائمة المثول أمامه، مؤسسًا باستحضارها ثم بشعيرة الحزن والتَّفجّع بعد ذلك إعلامًا عاشورائيًا أسهم بقدرٍ كبير في هداية المتلقي ثم ديمومة حضورها لديه وإذكاء شعلتها في نفسه فتجلى إعلامه على مستويين:
الأول: مستوى التوجيه والدفع باتجاه الحزن على قضية سيد الشهداء (صلوات الله عليه) وربط الموالي عاطفيًا بالأذى الذي لحق أهل البيت وبالإمام الحسين خاصة (صلوات الله عليهم) ومن ذلك قوله (صلوات الله عليه): ((أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي (عليهما السلام) دمعة حتى تسيل على خده بوأه الله بها في الجنة غرفًا يسكنها أحقابًا، وأيما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خده فينا لأذى مسه من عدونا في الدنيا بوأه الله بها في الجنة مبوأ صدق، وأيما مؤمن مسه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خده من مضاضة ما أوذي فينا صرف الله عن وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار))([1])، مربيًا المتلقي على أدب استشعار ذلك الأذى والتفاعل معه بالقدر الذي يؤمَّل منه رفض الظلم، ثم الوقوف على حقيقة ما تعرَّض له الأئمة (صلوات الله عليهم) في جنب الله وهم يؤدون رسالته، ليُنار بعد ذلك على أدوارهم ومهامهم الإلهية ثم معرفتهم الحقة، فيحقِّق في النهاية لدى المستشعر توجهًا نحو ما أراده الله تعالى من وجهة حصرًا مغلِّقًا بهديه أبواب دين البدعة والضلالة.
والثاني: مستوى التثقيف العملي وتطبيق ما وجَّه إليه (صلوات الله عليه) من استشعار الأذى والمظلومية في سيرته الشريفة فقد ذكرنا في مقدمة الكلام أنَّه اتخذ من سيرة البكاء على سيد الشهداء دأبًا وديدنًا، وممَّا نقل بهذا الصدد: ((وأمَّا علي بن الحسين فبكى على الحسين (عليهما السلام) عشرين سنة أو أربعين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلا بكى، حتى قال له مولى له: جعلت فداك يا بن رسول الله، إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله مالا تعلمون، إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك عبرة))([2])، وروي أيضًا: ((ولقد كان بكى على أبيه الحسين (عليه السلام) عشرين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلا بكى حتى قال له مولى له: يا ابن رسول الله أما آن لحزنك أن ينقضي؟! فقال له: ويحك إن يعقوب النبي (عليه السلام) كان له اثنا عشر ابنًا فغيب الله عنه واحدًا منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حيًّا في الدنيا وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني)) ([3]).
وكان ممَّا أثمره التثقيف العاشورائي لإمامنا السَّجَّاد (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) بشقيه النّظريّ والتّطبيقيّ مع سائر تدابيره الأخرى، أن أعاد بناء جسد الإسلام وهيكلته بعد تمزقه وانهياره، عقيب واقعة كربلاء، فأعاد من جديد خلقًا إلى الوجهة الحق مستثمرًا قضية سيِّد الشُّهداء (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) ومظلوميته، ليورث بعد ذلك خصوصيّة الاهتمام بهذه القضية واستثمارها في الهداية لمن أتى بعد ذلك من الأئمة (صلوات الله تعالى وسلامه عليهم) فنجدها حاضرة بجلاء في تثقيف كل إمام بعد زين العابدين (صلوات الله تعالى وسلامه عليهم).
ولا يفوتنا أن التثقيف بالحزن والبكاء على رزء سيد الشهداء قد بكَّر به الله تعالى في مرويات كثيرة حينما كان يُعلم أنبيائه (صلوات الله عليهم) بتفصيل ما سيجري عليه ليقيموا بدورهم شعائر الحزن والتَّفجّع، لينحوَ بعد ذلك من لا ينطق عن الهوى (صلى الله عليه وآله وسلم) منحى السماء ويثقف مبكِّرًا لشعيرة البكاء على رزء سيد الشهداء(صلوات الله عليه) والتعريف بمظلوميته قبل حلولها بسنين عدة، وكان ممَّا نقل من كتب أهل الخلاف عن أُم سلمة أنَّها قالت: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ) جَالِسًا ذَاتَ يَوْمٍ فِي بَيْتِي، فَقَالَ: لَا يَدْخُلْ عَلَيَّ أَحَدٌ، فَانْتَظَرْتُ فَدَخَلَ الْحُسَيْنُ [عليه السلام]، فَسَمِعْتُ نَشِيجَ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ) يَبْكِي، فَاطَّلَعْتُ فَإِذَا حُسَيْنٌ فِي حِجْرِهِ، وَالنَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ) يَمْسَحُ جَبِينَهُ وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: وَاللهِ مَا عَلِمْتُ حِينَ دَخَلَ، فَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) كَانَ مَعَنَا فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ: تُحِبُّهُ؟ قُلْتُ: أَمَّا مِنَ الدُّنْيَا فَنَعَمْ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ سَتَقْتُلُ هَذَا بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا كَرْبَلَاءُ، فَتَنَاوَلَ جِبْرِيلُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) مِنْ تُرْبَتِهَا، فَأَرَاهَا النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ)، فَلَمَّا أُحِيطَ بِحُسَينٍ حِينَ قُتِلَ، قَالَ: مَا اسْمُ هَذِهِ الْأَرْضِ؟ قَالُوا: كَرْبَلَاءُ. قَالَ: صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ، أَرْضُ كَرْبٍ وَبَلَاء)) ([4])،ٍ وأيضًا عن أسماء قالت: ((وجعله في حجره (أي الحسين) فبكى (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قلت فداك أبي وأمي مم بكاؤك؟ فقال ابني هذا يا أسماء إنه تقتله الفئة الباغية من أمتي لا أنالهم الله شفاعتي)) ([5])، فكان إمامنا السجاد (صلوات الله عليه) يستمد مشروعية منهجية البكاء واستشعار الأذى لما حلَّ بالحسين (صلوات الله عليه) من تأسيس رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسنته، فمن يعترض هنا فليعترض هناك.
غادر إمامنا السَّجَّاد (عليه السَّلَام) الحياة شهيدًا في الخامس والعشرين من شهر محرم الحرام لتحلَّ ذكرى فاجعته في ضمن أيام الحزن على فاجعة سيد الشهداء فيشتد الحزن مضاعفًا عند أهل الولاء ((وقبض عَلِيّ بن الحُسَين (عليهما السَّلَام) وهو ابن سبع وخمسين سنة، في عام خمس وتسعين، وعاش بعد الحُسَين خمسًا وثلاثين سنة)) ([6]).
فسلام عليه متصل ما بكى الحُسَين محجر، وما اهتدت إليه بصيرة ورحمة الله وبركاته...

الهوامش:
[1] كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه (ت: 367): 201.
[2] الأمالي، الشيخ الصدوق (ت: 381): 204.
[3] الخصال، الشيخ الصدوق: 518-519.
[4] المعجم الكبير، الطبراني (ت: 360): 3/109.
[5] ذخائر العقبى، احمد بن عبد الله الطبري (ت: 694): 119.
[6] الكافي: الشيخ الكليني (ت: 329): 1/468، ح6.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3285 Seconds