من آثار قضاء الإمام علي عليه السلام في الفقه الجنائي على بناء الأساس السياسي في الدولة/ ثالثا: أثر تطبيق حد البغي

مقالات وبحوث

من آثار قضاء الإمام علي عليه السلام في الفقه الجنائي على بناء الأساس السياسي في الدولة/ ثالثا: أثر تطبيق حد البغي

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 18-05-2021

بقلم: م. م. وئام علي القره غولي

الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، ولا ينبغي الحمد إلا له، والصلاة والسلام على المحمود الصادق الأمين المنتجب المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين الهداة المهديين.
وبعد:
إنّ مِن أهم الأهداف التي تُنشدها الدّولة الإسلامية في سياستِها الداخلية بسط الأمن العام وحفظ أرواح النّاس وأعراضهم وأموالهم مِن الباغين والمعتدين[1]، وقَد أنزلت الشّريعة عقوبات رادعة لهؤلاء المُعتدين، وسعى أميرُ المؤمنين (عليه السلام) إلى تطبيقها في قضائه، مما جعلَ لها أثرا في تحقيقِ الاستقرار والأمن العام في المُجتمع، لذا سنتناولُ في هذا المَطلب أثر تطبيق حد الحرابة، وأثر تطبيق حد الرّدة، ومِن ثمّ أثر تطبيق حد البغي.
الفرع الثالث: أثر تطبيق حد البغي
تُعدُّ ((جريمة البغي مِن الجرائمِ ذات الطّابع السّياسي، أي أنّها أقرب إلى الجرائمِ السّياسية في المَعنى المُعاصر، وإنّ البغي لا يتحقق بمجردِ المُخالفة لرأي الإمام، وإنّما ينبغي أن يتوفر قصد الخُروج على طاعةِ الإمام بالقوّة))[2]، والشّريعة الإسلامية بدورِها قد أوجبت طاعة ولي الأمر، لأن في طاعتهِ طاعة الله (عز وجل)، قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)[3]، وإضافة إلى ما نصّت عليه الآية الكريمة مِن وجوبِ طاعة الإمام، فقد وردت كَثير من الأحاديثِ عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)في وجوب طاعةِ ولي أمر المسلمين منها قوله(صلى الله عليه وآله): ((اسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله الأمر، فإنّه نِظام الإسلام))[4].
 ويرجعُ سبب ذلك التأكيد على الطّاعة إلى أنّه لا يستقيمُ الدّين، ولا يحفظُ الشرع إلا بوجودِ الإمام الذي يمسك زمام الأمور وينظمُ الحقوق ويقيمُ الحدود ويقمعُ الظالم وينصرُ المَظلوم، والخروج على الإمام، وشقّ عصا الطّاعة عليه، اعتداء على حرمةِ الدّولة الإسلامية، ومُحاربة لإمام المُسلمين المُجمع على ولايتهِ، وهذا الفعل جريمة تُسبب الفَساد والفتن في البلادِ، وتفرق بينَ المسلمين، ومِن هذا المُنطلق عاقبت الشريعة الإسلامية على هذه الجريمة (البغي) بالقتل وهي عقوبة ثابتة بالكتاب والسنة[5]، قال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله)[6].

وقَد شَهدت الدّولة الإسلامية في عهدِ أمير المؤمنين (عليه السلام) ظهور طوائف عدّة من المُتمردين (البُغاة) على القيادةِ الشرعية الذينَ كانوا يهدفونَ إلى تفكيكِ سُلطة أمير المؤمنين (عليه السلام) والسيطرة عليها، وتمثلّ هؤلاء بثلاثِ فُرق قد أشار إليهم الإمام علي (عليه السلام) بقوله: ((قد أمرت بقتالِ الناكثين والقاسطين والمارقين))[7].
 وكانَ الناكثون هُم أصحاب الجّمل، الذين نكثوا بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وخرجوا لمُحاربته، وانيطت قيادة هذه الحرب إلى طلحة والزبير وغيرهم، وكانت أسباب خروج هؤلاء البُغاة على أمير المؤمنين (عليه السلام) كثيرة ومنها مساواتهما في العطاءِ أسوة ببقيةِ الرّعية؛ لأنّهم كانوا في زمنِ عُثمان مُفضلين بالعَطاء عمن سواهم، وطلبوا مِن  أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يفضلهم كذلك إلا أنّه أبى، وإضافة إلى هذا السّبب فإنّ طمعهم بالملك هو السبب الأقوى في محاربتهم للإمام علي (عليه السلام)[8]، هذا من جهةِ الأسباب أما مِن جهةِ نتائج هذه الحرب فقد كان النصر حليف الإمام علي (عليه السلام) في حربٍ لم يطلْ أمدها إلا أربع ساعات من النهار[9].
وبعد أن حقق الإمام علي (عليه السلام) الأمن والاستقرار في العراق، بإخمادهِ فكرةَ الناكثين  انتقلَ إلى مواجهةِ فتنة القاسطين التي قادها مُعاوية، وقد انتهت هذه المَعركة لصالحِ جيش الإمام علي(عليه السلام) وهزيمة جيش معاوية[10]، ((فلجأ مُعاوية إلى خدعةٍ رَفع المَصاحف على رؤوس السّيوف والرماح، كما أشارَ عليهِ عمرو بن العاص وبالتّعاون مع جماعة مِن جيش الإمام أغراهم معاوية بالمال))[11]، مِن أجلِ إيقاف القِتال ومُحاولة اللجوءِ إلى الهِدنة، وانتهى الأمر بعدَ ذلك إلى التّحكيم، الذي اضطرَ الإمام (عليه السلام) إلى القبولِ بهِ بعدَ ضغوطٍ من بعض القادة العسكريين في جيشه[12]، إلا أنّ  الإمام علي (عليه السلام) بعد أن نقض معاوية مُقتضى ما تم عليه مِن التحكيم، كانَ مصرا أشد الإصرار على مواصلةِ القِتال والتَجهيز الدائم لمباشرتهِ ضد مُعسكر مُعاوية حتى آخر يوم من حياتهِ الشريفة[13].
وبعد انتهاء الإمام علي (عليه السلام) مِن مُحاربةِ الناكثين والقاسطين، ظَهرت طائفة أخرى مِن البُغاة وهم المَارقون، الذين انشقوا عن جيشِ الإمام (عليه السلام) بعد معركة صفين، ويعودُ سبب انشقاقهم إلى التحكيمِ الذي انتهت إليهِ حرب الإمام علي (عليه السلام) مَع معاوية، رافعين بذلك شعارًا «لا حكم إلا لله»، وقد كشفَ أمير المؤمنين (عليه السلام)  كذب ما تدعيه هذه الطّائفة وزوره [14]، قائلا ردا على شعارهم: ((لا حكم إلا لله... كلمة حق يراد بها باطل))[15]، حيث إنّ البُسطاء والجّهلة مِن النّاس سحرتهم هذهِ الشعارات، فاستجابوا للخوارجِ استجابة عمياء، من دونَ تفكير بأبعادِ هذه الشّعارات وخلفيتها وركائزها العقائدية، إلا أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) استطاعَ بحلمهِ وصبرهِ أن ينقذ ثُلة مِن أولئك البُسطاء والسّذج بعدما كشفَ زيف تلك الشّعارات وفسادها[16].

وبالرّغمِ مما فعله الخوارج مع الإمام علي (عليه السلام) إلا أنّه عاملَهم مُعاملة المُسلمين، ولم يمنعْهم من حقوقهِم كمواطنين، فلهم أن يحضروا المَساجد، ولهم ما للمسلمين مِن بيتِ المَال وما إلى ذلك من الحقوقِ الأخرى، إذ يقول (عليه السلام): ((لَكُم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا لا نمنعكم مَساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نَمعنكم الفيء مادامت أيديْكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤنا...))[17]، وقد حاولَ الإمامُ علي (عليه السلام) إرجاعهم إلى الصوابِ بالرّغم من تمردهِم عليه (عليه السلام) إلا أنّهم ردّوا عليه قائلين ((أمّا بعد، فإنّك لم تغضب لربك، وإنّما غضبت لنفسِك، فأن شهدت على نفسِك بالكُفر، واستقبلت التّوبة، نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نبذناك على السوءِ، إن الله لا يُحب الخائنين))[18]، وبعد أن قرأ أميرُ المؤمنين (عليه السلام) كتابهم  يئس منهم ورأى أن يدعهم ويمضي بالنّاس حتى يلقى أهل الشام[19]، إلا أن ((الخوارجَ أخذوا يعترضونَ  النّاس في الطُرقات، ويفعلونَ بهم الأفعال المُنكرة، كنهب من يخالفهم  والتشنيع بجثتهِ، فاضطرَّ الإمام أن يُغير وجهة سيره، ومُواجهة هذه العصابة المُنشقّة المُفسدة في الأرضِ، فسارَ إليهم بجيشهِ ووعظهم أولا، ودعاهم إلى العودةِ والتّوبة، ولكنهّم أصرّوا على تشددِهِم وعنادهم، فقاتلهم الإمام والحق بهم شرّ هزيمة))[20] .
والذي يتضحُ مما سبق أنّه لا فرقَ بينَ الرّدة التي هي خروج عن الإسلام والبَغي الذي هو الخروج على الحاكمِ المُسلم في الدولةِ، فكلا الجَريمتين تَهدُفان إلى تحدّي الدّين الإسلامي بالخروجِ عليه، وبهذا يكون الإمام علي (عليه السلام) بمواجهتهِ لهؤلاء البُغاة يكون قد حافظَ على نظامِ الحُكم الإسلامي القائم في الدولةِ، لأن بعدمِ  تصديه لهم سوف ينتشرُ الخلاف والاضطراب في صفوفِ المُجتمع، مما يجعله مُنقسما إلى شعب وأحزابٍ تتقاتل فيما بينها في سبيل الحصول على زمام السلطة والحكم، إضافة إلى ذلك فإن الإمام علي (عليه السلام) لو تساهل في محاربتهِم  ومواجهتهم فسوف يُؤدي ذلك إلى رجوع سلطة تحكم الأقوياء بالضعفاء التي عمل على إبادتها، ويرجعُ الحكم البعيد عن قيم الإسلام وهذا من شأنه أن يؤدي إلى حدوث  التّنازع والتّناحر، الذي يُعد من أهم أسباب انحلال الدولة وتفككها وغياب عنصر الأمن والاستقرار فيها، الذي هو مِن أهمّ الأهداف التي سَعى أميرُ المؤمنين (عليه السلام) إلى تحقيقِها في دولتهِ، إذ يقول (عليه السلام): ((لا خيرَ في القولِ إلا مع العَمل.... ولا في الوطنِ إلا مع الأمن والمسرة))[21]، وذلك لأنّه بانعدامِ الأمن والاستقرار السياسي في الدّولةِ سوف تنعدمُ بقيّة الأسس الأخرى، إذ بانعدامِ الأمن سوف تنشلُ الحركة الاقتصادية ويبرزُ الفقر والحرمان في الدولة، إضافة إلى ذلك سوف يفقدُ المُجتمع المساواة والعدالة الاجتماعية ويصيبُ المُجتمع الظلم والاضطهاد([22]).

الهوامش:
[1] ينظر: النظام السياسي في الإسلام: القرشي، ص 270.
[2] عقوبة الجريمة في الشريعة الإسلامية: عبد الله الخطيب، دار الحوراء، بغداد، د ط، د ت، ص 66.
[3] سورة النساء: الآية 59.
[4] الأمالي: المفيد، ص 14- بحار الأنوار: المجلسي،23/298.
[5] ينظر: أثار تطبيق الشريعة الإسلامية في منع الجريمة: التزاحم، ص 127.
[6] سورة الحجرات: الآية9.
[7] الخصال: أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي (الصدوق)، تحقيق علي أكبر الغفاري، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم، د ط، 1411هـ، ص 145- الفصول المختارة من العيون والمحاسن: الشريف المرتضى، تحقيق نور الدين جعفريان الأصبهاني وآخرون، دار المفيد، بيروت، ط2، 1414هـ، ص 232.
[8] ينظر: الإمامة والسياسة: الدينوري، 1/51.
[9] ينظر: تاريخ اليعقوبي: اليعقوبي، 2/183.
[10] موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): محمد الريشهري، ص 279.
[11] أزمة الخلافة والإمامة وآثارها المعاصرة: أسعد وحيد قاسم، ص 114.
[12] ينظر: علي رجل المعارضة والدولة: القزويني، ص 334.
[13] ينظر: الفقه السياسي عند الإمام علي (عليه السلام): ناصر هادي ناصر الحلو، رسالة ماجستير، جامعة الكوفة، 1436هـ، ص 256.
[14] ينظر: مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب، 2/363- مناقب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): محمد بن سليمان الكوفي، تحقيق محمد باقر المحمودي، مجمع أحياء التراث، مطبعة النهضة، ط1، 1412هـ، 2/340- الخوارج والشيعة: دكتور عبد الرحمن البدوي، دار الجليل، مصر، د ط، 1418هـ، 39.
[15] جامع أحاديث الشيعة: البروجردي، 13/87.
[16] ينظر: أمير المؤمنين (عليه السلام) والاستراتيجية الأمنية إبان حكومته: الغفاري، ص 233.
[17] إرواء الغليل: محمد ناصر الألباني، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1405هـ، 8/118- تاريخ ابن خلدون: ابن خلدون، مؤسسة الأعلمي، بيروت، د ط، 1391هـ/197- البداية والنهاية: إسماعيل بن كثير الدمشقي، دار إحياء التراث، بيروت، ط1، 1408هـ، 7/213.
[18] تاريخ الطبري: الطبري، 4/57- جواهر التاريخ: العاملي، 1/365.
[19] ينظر: سيرة الرسول وخلفائه: علي فضل الله الحسني، الدار الإسلامية، ط1، 1413هـ، 7/203.
[20] أزمة الخلافة والإمامة وآثارها المعاصرة: أسعد وحيد القاسم، ص 116.
[21] الاختصاص: أبو عبد الله محمد بن النعمان العكبري البغدادي (المفيد) تحقيق علي أكبر غفاري وآخرون، دار المفيد، بيروت، ط2، 1414هـ، ص 244- بحار الأنوار: المجلسي، 66/401.
([22]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الفقه الجنائي في قضاء الإمام علي عليه السلام وأثره في بناء الدولة الإسلامية، الدكتورة ناهدة الغالبي، الباحثة وئام القره غولي، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 227-232.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3143 Seconds