من آثار نهج البلاغة في المستوى العقائدي لدى المفسرين: أولاً: التوحيد ومعرفة الله

مقالات وبحوث

من آثار نهج البلاغة في المستوى العقائدي لدى المفسرين: أولاً: التوحيد ومعرفة الله

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 22-03-2022

بقلم م. م. الشيخ محسن الخزاعي- جامعة الكوفة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين أساس الدين وعماد اليقين.
أما بعد:
يعدُّ موضوع التوحيد من المواضيع التي شغلت بال المفسرين منذ مجيء الإسلام وإلى يومنا هذا، وقد وصف القرآن الكريم منكري التوحيد بالكفر، وتكفل بالرد على على النصارى إذْ زعموا أنَّ الله تعالى ثالث ثلاثة، بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾([1]).
وفي ضوء هذا أخذ أئمة أهل البيت عليهم السلام بيان معنى التوحيد، فقد سئل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الموضوع عدة مرات فكان يؤكد وحدانية الله تعالى، وله في ذلك رؤية تنبثق من معرفته الصميمية بالرسالة المحمدية، وفهمه لمعنى العبودية، ووحدانية الله.
فقد روي عنه أن إعرابياً قام يوم الجمل فقال: يا أمير المؤمنين أتقول: إنَّ الله واحد... قال: يا إعرابي إنَّ القول في أنَّ الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل، ووجهان يثبتان فيه، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأنَّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد أما ترى أنَّه كفر من قال: إنَّه ثالث ثلاثة، وقول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لأنَّه تشبيه، وجل ربنا وتعالى عن ذلك، وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا، وقول القائل: إنّه عز وجل أَحديُّ المعنى يعني به أنَّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربنا عز وجل([2]).
لقد أثرت هذه الرؤية في الجهد التفسيري لدى العلماء في القرن الخامس عشر الهجري، ومنهم السيد العلامة الطباطبائي، إذ قال في تفسير قوله تعالى: ﴿.. وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلا إِلَهٌ َواحِدٌ...﴾إلى آخر الآية "ردٌّ منه تعالى لقولهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ بأنَّ الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية الكثرة بوجه من الوجوه فهو تعالى في ذاته واحد، وإذا اتصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئاً، ولا الصفة إذا أضيفت إلى الصفة أورث ذلك كثرة، وتعدداً فهو تعالى أحدي الذات لا ينقسم لا في خارج، ولا في وهم، ولا في عقل... فهو تعالى واحد في ذاته لكن لا بالوحدة العددية التي لسائر الأشياء المتكون منها الكثرات، ولا منعوت بكثرة في ذات أو اسم، أو صفة، كيف وهذه الوحدة العددية والكثرة المتألفة منها كلتاهما من آثار صنعه وإيجاده فكيف يتصف بما هو من صنعه"([3]).
ثم نرى أنَّ السيد الطباطبائي لم يكتفِ بما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام من دون الرجوع إلى نهج البلاغة لينهل من نبعه المتدفق إذْ قال: "وفي النهج: أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنَّها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنَّه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثنّاه فقد جزَّأه، ومن جزَّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدَّه، ومن حدَّه فقد عدَّه"([4])، فقد وصف كلام الإمام عليه السلام بأنَّه أبدع البيان.([5])
ثم بيّنَ المقصود من كلامه عليه السلام بقوله:"ومحصل الشطر الأول من الكلام أنَّ معرفته تنتهي في استكمالها إلى نفي الصفات عنه، ومحصل الشطر الثاني المتفرع على الشطر الأول أي قوله عليه السلام: فمن وصف الله فقد قرنه... إلخ، أنّ إثبات الصفات يستلزم إثبات الوحدة العددية المتوقفة على التحديد غير الجائز عليه تعالى، وتنتج المقدمتان أنّ كمال معرفته تعالى يستوجب نفي الوحدة العددية منه، وثبات الوحدة بمعنى آخر، وهو مراده عليه السلام من سرد الكلام"([6]).
وقال أيضاً: "أما مسألة نفي الصفات عنه فقد بينه عليه السلام: "بقوله أول الدين معرفته" لظهور أنَّ من لم يعرف الله سبحانه ولو بوجه لم يَحِل بعد في ساحة الدين"([7]).
وهكذا سار السيد الطباطبائي مع كلام الإمام عليه السلام في نهج البلاغة ليقف عند كل مفردة من مفردات خطابه، حتى أنَّه اقتصر في بحثه الروائي على ما ورد عنه عليه السلام ([8]).
ومن ثمَّ عطف قائلا:" وهذا الذي فسرنا به هذا العقد من كلامه عليه السلام هو الذي يؤيده أول الخطبة حيث يقول: الذي لا يدركه بُعْدُ الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود، على ما يظهر للمتأمل الفطن"([9]).
وهناك كلمة للسيد الطباطبائي في حقيقة التوحيد تظهر للقارئ حجم الأثر الذي تركه نهج البلاغة في هذا التفسير وهي قوله: "ولم نجد ما يكشف عنها غطاءها ـ أي حقيقة التوحيد ـ إلا ما ورد في كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه أفضل السلام خاصة، فإنَّ كلامه هو الفاتح لبابها، والرافع لسترها وحجابها على أهدى سبيل وأوضح طريق من البرهان، ثم ما وقع في كلام الفلاسفة الإسلاميين بعد الألف الهجري، وقد صرحوا بأنَّهم إنّما أفادوا من كلامه عليه السلام، وهذا هو السر في اقتصارنا في البحث الروائي على نقل نماذج من غرر كلامه عليه السلام، لأنَّ السلوك في هذه المسألة وشرحها من مسلك الاحتجاج البرهاني لا يوجد في كلام غيره عليه السلام "([10]).
فنراهُ يعقدُ فصلاً كاملاً يقف به عند كلام الإمام عليه السلام شارحاً له، وآخذاً منه ما يقيمُ صرحاً من التصور عن معنى توحيد الذات المقدسة، إذْ إنَّه لم يجد ما يكشف عن تلك الحقائق غطاءها سوى كلام الإمام علي عليه السلام.[11].

الهوامش:
([1]) المائدة، 73.
([2]) ظ : التوحيد، الشيخ الصدوق، 83، وظ : الخصال، الشيخ الصدوق، 2، وظ : البحار 3/207.
([3]) الميزان، 6 / 59.
([4]) نهج البلاغة، 1/ 15.
[5])) الميزان، 6 / 77.
([6]) الميزان، 6 / 77.
([7]) الميزان، 6/ 77.
([8]) ظ : الميزان، 6/ 76 ـ 86.
([9]) الميزان، 6/ 78، وظ : نهج البلاغة، 1/ 14
([10]) الميزان، 6/ 87.
[11] لمزيد من الاطلاع ينظر: أثر نهج البلاغة في تفاسير الإمامية، الشيخ محسن الخزاعي، طبعة مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص133 - 137.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3672 Seconds