من أغراض الدعاء في نهج البلاغة

مقالات وبحوث

من أغراض الدعاء في نهج البلاغة

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 09-01-2023

بقلم: الدكتور خليل خلف بشير

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.

وبعد:
   لم يكن الدعاء وسيلة لإظهار التعبد والتذلل والخضوع لله سبحانه وتعالى فحسب بل أنه يحمل معاني عديدة منها:
عرض الأوضاع وتحليل الأحداث:  يعرض الإمام الحالة السياسية التي تعيشها الأمة الإسلامية في عهده بأسلوب دعائي ليقع موقعاً حسناً في النفوس، وليعرف الناس ما يجري ما حولهم من أحداث كما في قوله ((أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اطَّلَعَ الْيَمَنَ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَظُنُّ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ وَ بِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي الْحَقِّ وَطَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ فِي الْبَاطِلِ وَبِأَدَائِهِمُ الْأَمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ وَخِيَانَتِكُمْ وَبِصَلَاحِهِمْ فِي بِلَادِهِمْ وَفَسَادِكُمْ فَلَوِ ائْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَعْبٍ لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلَاقَتِهِ اللهمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَمَلُّونِي وَسَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِي فَأَبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ وَأَبْدِلْهُمْ بِي شَرّاً مِنِّي اللهمَّ مِثْ قُلُوبَهُمْ كَمَا يُمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ))[1]فقد وصف تثاقل أصحابه عن الجهاد ومخالفتهم له بالرأي بعد أن استباح بسر بن أرطاة المدينة ثم اليمن وسفك الدماء وروّع الناس فقد استاء الإمام من موقف أصحابه وتخاذل قائديه عبيد الله بن عباس، وسعيد بن نمران هنالك دعا إمامنا الله تعالى أن يبدله بهم خيراً منهم ويبدلهم به شراً منه، ويذيب قلوبهم كما يُذاب الملح في الماء بضياع عقولهم وفطنتهم ودرايتهم وحكمتهم[2].

الشكوى  : يستخدم الإمام أسلوب الدعاء لغرض الشكوى ممن ظلمه من رعيته أو من أفراد مخصوصين ولهم باع في الدولة الإسلامية مثل طلحة والزبير كما في قوله ((اللهمَّ إِنَّهُمَا قَطَعَانِي وَظَلَمَانِي وَنَكَثَا بَيْعَتِي وَأَلَّبَا النَّاسَ عَلَيَّ فَاحْلُلْ مَا عَقَدَا وَلَا تُحْكِمْ لَهُمَا مَا أَبْرَمَا وَأَرِهِمَا الْمَسَاءَةَ فِيمَا أَمَّلَا وَعَمِلَا))[3].
أغراض فكرية : يستخدم الإمام أسلوب الدعاء لأغراض فكرية مثل التوحيد،وما يتعلق بصفات الله تعالى نحو قوله ((اللهمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ وَالتَّعْدَادِ الْكَثِيرِ إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ وَإِنْ تُرْجَ فَخَيْرُ مَرْجُوٍّ اللهمَّ وَقَدْ بَسَطْتَ لِي فِيمَا لَا أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ وَلَا أُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاكَ وَلَا أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ الْخَيْبَةِ وَمَوَاضِعِ الرِّيبَةِ وَعَدَلْتَ بِلِسَانِي عَنْ مَدَائِحِ الْآدَمِيِّينَ وَالثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ الْمَخْلُوقِينَ اللهمَّ وَلِكُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ وَقَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلًا عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وَكُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ اللهمَّ وَ هَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ وَلَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لِهَذِهِ الْمَحَامِدِ وَالْمَمَادِحِ غَيْرَكَ وَبِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لَا يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلَّا فَضْلُكَ وَلَا يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلَّا مَنُّكَ وَ جُودُكَ فَهَبْ لَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ رِضَاكَ وَأَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَيْدِي إِلَى سِوَاكَ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ))[4].

التعبير عن مكنونات النفس وما يختلج في الأعماق من نوايا : يكون الدعاء أحياناً معبراً عما تكنه النفس الإنسانية من نوايا وما يختلج في الأعماق من دوافع مثل كون الإمام لم يطمح لمنافسة في سلطان، ولكنه أراد الإصلاح في البلاد والعباد إذ يقول : ((اللهمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ وَلَا الْتِمَاسَ شَيْ‏ءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ وَلَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ اللهمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ وَسَمِعَ وَأَجَابَ لَمْ يَسْبِقْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بِالصَّلَاةِ)) [5].

 رفع معنويات المقاتلين : يلجأ الإمام إلى الدعاء ليقوي عزيمة أصحابه ومعنوياتهم في ملاقاة الأعداء؛ لأن الدعاء يرد البلاء لاسيما إذا صدر من مؤمن فكيف بالإمام المعصوم المفترض الطاعة فالدعاء بالنسبة لأصحابه يمثل قوة ومنعة ضد الأعداء كما في دعائه عند لقاء العدو في صفين ((اللهمَّ رَبَّ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْجَوِّ الْمَكْفُوفِ الَّذِي جَعَلْتَهُ مَغِيضاً لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَجْرًى لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمُخْتَلَفاً لِلنُّجُومِ السَّيَّارَةِ وَجَعَلْتَ سُكَّانَهُ سِبْطاً مِنْ مَلَائِكَتِكَ لَا يَسْأَمُونَ مِنْ عِبَادَتِكَ وَرَبَّ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي جَعَلْتَهَا قَرَاراً لِلْأَنَامِ وَمَدْرَجاً لِلْهَوَامِّ وَالْأَنْعَامِ وَمَا لَا يُحْصَى مِمَّا يُرَى وَمَا لَا يُرَى وَرَبَّ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي الَّتِي جَعَلْتَهَا لِلْأَرْضِ أَوْتَاداً وَ لِلْخَلْقِ اعْتِمَاداً إِنْ أَظْهَرْتَنَا عَلَى عَدُوِّنَا فَجَنِّبْنَا الْبَغْيَ وَسَدِّدْنَا لِلْحَقِّ وَإِنْ أَظْهَرْتَهُمْ عَلَيْنَا فَارْزُقْنَا الشَّهَادَةَ وَاعْصِمْنَا مِنَ الْفِتْنَةِ)) [6] . وكذا الحال في استنهاضه أصحابه لجهاد أهل الشام  في قوله ((اللهمَّ أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِكَ سَمِعَ مَقَالَتَنَا الْعَادِلَةَ غَيْرَ الْجَائِرَةِ وَالْمُصْلِحَةَ غَيْرَ الْمُفْسِدَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَأَبَى بَعْدَ سَمْعِهِ لَهَا إِلَّا النُّكُوصَ عَنْ نُصْرَتِكَ وَالْإِبْطَاءَ عَنْ إِعْزَازِ دِينِكَ فَإِنَّا نَسْتَشْهِدُكَ عَلَيْهِ يَا أَكْبَرَ الشَّاهِدِينَ شَهَادَةً وَنَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا أَسْكَنْتَهُ أَرْضَكَ وَسمَاوَاتِكَ ثُمَّ أَنْتَ بَعْدُ الْمُغْنِي عَنْ نَصْرِهِ وَالْآخِذُ لَهُ بِذَنْبِهِ))[7] .
رسم صورة الصراع بينه وبين أعدائه : يستخدم الإمام الدعاء أحياناً ليرسم صورة بارعة للصراع الدائر بينه وبين أعدائه كما في قوله في قريش  ((اللهمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي وَصَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي ثُمَّ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَفِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ))[8].

ولم يكن (عليه السلام) يتألم لشخصه وموقعه لكنه كان يملك خطة تفتح الإسلام على حركة الوعي كلها، وتملأ الواقع الإسلام علماً وروحانية واستقامة وأمانة وفتحاً في الخط الإسلامي الأصيل فلم تكن قصته قصة كرسي يفقده لكنها قضية رسالة كان يريد أن يفتحها على الناس ليكمل الخط الرسالي الذي بدأه الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) لكن الحواجز وقفت لتحول بينه وبين ذلك، وبقي مخلصاً لله ولرسوله ولرسالة الإسلام لذلك أغمد سيفه وانفتح على الذين أبعدوه وتقدّموا عليه فأعطاهم الرأي والمشورة والنصيحة[9] لذا قال ((لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي وَوَاللَّهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً الْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَفَضْلِهِ وَزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ))[10].

 حقن الدماء وصلاح ذات البين وطلب الهداية : لقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) غاية في الخلق حتى مع أعدائه فعندما يسمع أصحابه يسبون أهل الشام ينادى بهم ((إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ))[11]مبتهلاً إلى الله بقوله ((اللهمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ))،وهكذا كان في الحرب يعمل على أن يحفظ ألسنة جنوده من أن يسيئوا بالكلام بالسباب والشتيمة، ويعلمهم إذا ابتلوا بالصراع مع المسلمين الآخرين أن ينفتحوا بالمحبة فكأنما يقول له : حاربْ بمحبة ولا تكن روح التدمير في حربك بل روح السلام بحيث يكون تحركك في الحرب من موقع ضرورة، وقلبك يهتف بالله الذي يقول لك : ألق ِ السلام[12])[13].

الهوامش:
[1] - نهج البلاغة، الخطبة 25،ص51-52.
[2] - ينظر : نفحات الولاية 2/66-67.
[3]- نهج البلاغة، الخطبة 137،ص224.
[4]- المصدر نفسه، الخطبة 131،ص217.
[5]3 -  نهج البلاغة، الخطبة 91،ص153-154، وهي الخطبة المعروفة بخطبة الأشباح.
[6] -  المصدر نفسه، الخطبة 171، ص283-284.
[7] - نهج البلاغة، الخطبة 212،ص 381.
[8] -  المصدر نفسه، الخطبة 172،ص285 .
[9]- ينظر : علي ميزان الحق / السيد محمد حسين فضل الله 310-311.
[10]-  نهج البلاغة، الخطبة 74، ص 103-104.
[11]- نهج البلاغة،من كلمات كان يدعو بها 78،ص106-107.
[12]2 -  المصدر نفسه، من كلامه 206،ص374، وكذا الخطبة 227ص406-407.
[13]لمزيد من الاطلاع ينظر: من النتاج الفكري لأمير المؤمنين عليه السلام تفسيره المغيب للقرآن الكريم وادعيته العلوية للدكتور خليل خلف بشير، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 129-133.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2520 Seconds