من ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة قال عليه السلام: (اللَّهُمَّ خَرَجْنَا إِلَيْكَ حِينَ اعْتَكَرَتْ عَلَيْنَا حَدَابِيرُ السِّنِينَ وَأَخْلَفَتْنَا مَخَايِلُ الْجُودِ فَكُنْتَ الرَّجَاءَ لِلْمُبْتَئِسِ وَالْبَلاَغَ  لِلْمُلْتَمِسِ)

مقالات وبحوث

من ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة قال عليه السلام: (اللَّهُمَّ خَرَجْنَا إِلَيْكَ حِينَ اعْتَكَرَتْ عَلَيْنَا حَدَابِيرُ السِّنِينَ وَأَخْلَفَتْنَا مَخَايِلُ الْجُودِ فَكُنْتَ الرَّجَاءَ لِلْمُبْتَئِسِ وَالْبَلاَغَ لِلْمُلْتَمِسِ)

974 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 24-04-2023

بقلم: د. حسام عدنان الياسري.

الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانع كل غنيمة وفضل، وكاشف عظيمة وازل، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الاطهار.

وبعد:
ناقةٌ حِدْبِيْر حَدْباء، إذا بدت حراقيفها، وعظم ظهرها[1]. والحَدَابِيْر جمع (حِدْبَار)، وهي الناقة التي أنحنى ظهرها من الهُزال والدبّر[2]. فهي ضامرة قد ذهب لحمها من الضعف[3]. وقد وردت لفظة (حَدَابِيْر) مرة واحدة في نهج البلاغة[4]، وذلك في دعاء الإمام في (الاستسقاء) الذي يقول فيه: ((اللَّهُمَّ خَرَجْنَا إِلَيْكَ حِينَ اعْتَكَرَتْ[5]عَلَيْنَا حَدَابِيرُ السِّنِينَ، وَأَخْلَفَتْنَا مَخَايِلُ[6] الْجُودِ؛ فَكُنْتَ الرَّجَاءَ لِلْمُبْتَئِسِ، وَالْبَلاَغَ لِلْمُلْتَمِسِ))[7]. والنص - كما تقدم - في دعاء الاستسقاء الذي يدعو به لإنزال رحمة الله، واستدرار المطر، ولهذا يصف فيه حال الناس، وما جرى عليهم. فاستعمل لفظة (حَدَابِيْرُ) مضافة إلى كلمة (السِّنِين) و(الحَدَابِيْرُ) في اللغة جمع (حِدْبَار)، وهي - كما يذكر الخليل - الناقة إذا بدت حراقيفها، وعظم ظهرها[8]. وهي (حِدابِيْرٌ) أيضاً [9]. وهذا هو الأصل في دلالة هذه المفردة عند اللغويين[10]. ويبدو أن السيد الشريف الرضي أفاد من الدلالة المعجمية لهذه المفردة، فشرح معناها في كلامه (عليه السلام) قائلاً: ((وقَوْله (حَدَابِير السِّنِينَ) جمع حِدْبَار، وهي النَّاقَةَ التي أنْضَاها السَّيْر. فشَبَّهُ بها السَّنَةَ التي فَشَا بها الجَدْبُ))[11]. ثم احتج السيد الشريف لهذهِ الدلالة بقول ذي الرمة[12]:

حَــدَابِيرُ مــا تَنْفَـكُّ إلاَّمُنَــاخَــــةً                         على الخَسْفِ أو نَرْمِي بها بلداً قَفْرا

فالشريف الرضي يعتمد على لغة العرب في دعم رأيه، الذي وافقه فيه أعلب شراح النهج ومنهم الشارح البحراني[13]، وصاحب الديباج الوضي[14]. في حين لم يعلق ابن أبي الحديد على دلالة هذهِ المفردة مكتفياً بالتعليق على البيت الشعري الذي احتج به السيد الشريف الرضي، مصوباً ما نقله الرضي بقوله: ((والبيت الذي ذكره الرضّي رحمه الله لذي الرّمّة، لا أعرفه إلاّ (حَرَاجِيْجُ)...والحُرْجُوْج النَّاقَةُ الضّامِرَةُ في طُوْلٍ))[15]. والراجح ما ذهب إليه الشارح ابن أبي الحديد في قول (ذي الرمة).أما موقف أصحاب الغريب من الاستعمال العلوي، فقد خصوا هذا الاستعمال وتوظيف المفردة فيه بكلام الإمام[16]. وأشاروا إلى أنها دالة في قول الإمام على الناقة التي ((بَدا عَظْمُ ظَهْرِها، ونَشَزت حراقِيفُها من الهُزَال))[17].وذهب ابن الأثير الجزري أنّ الإمام وظّف هذهِ الكلمة و((شَبّه بها السِّنِينَ التي يكثر فيها الجَدْبُ والقَحْطُ))[18]. وهذا التفسير شبيه بما ذكره الشريف الرضي في شرحه لكلام الإمام الذي اهتدى الشراح والمصنفون في (غريب الحديث) لكلامه إلى هذه الدلالة، وإضافتها إلى كلمة (السِّنين)، أضفى ذلك عليها الدلالة على الشدة والصعوبة وقلة النماء والهزال، وهي صفات تتميز بها الناقة الحِدْبار التي تكون عجفاء الظهر، ضامرة السنام [19]، لم يبق فيها إلا العظم من شدة الهزال. فيؤدي ذلك إلى قساوة بدنها وعدم تحملها للراكب الذي سيصعب عليه اعتلاء ظهرها أو الراحة عليه. ولهذا ورد في بعض الأحاديث:((سَأَحْمِلُكَ على صَعْبٍ حَدبَاء حِدْبَارٍ يَنِجُّ ظَهْرُها))[20]. أراد: بالحدباء التي التي احدودب ظهرها، أو التي صارت حدباء كالنعش الذي يحمل فيه الميت[21]، في حين أراد بالحدبار الناقة التي بدا عظم ظهرها، ونشزت حتى نجت القرحة منها، وسال منها القيح[22]. وقد ضرب ذلك مثالاً للأمر الصعب[23]. كأن ما في سنام الناقة الحدبار من هزال وقيح يمثل صعوبةً وعسراً لراكبها. وهذا هو وجه الشبه بين جدب السنين وقحطها، وبين ظهر الناقة (الحدبير) الذي بدا مثل الأكمة المجدبة أو النشز من الأرض[24]، الذي أقفر وخلا من العشب والرواء. ويحصل ذلك عند انقطاع المطر عنه، وعدم وصوله اليه فيؤدي ذلك إلى الجدب والقحط[25].

وكلمة (حَدِابيْر) تدل على الضعف والهزال والصعوبة، والجفاف وقلة الشحم في ظهر الناقة، فكأن هذهِ السنين التي يصفها الإمام أشبهت الدابة الحدباء التي بدت كالنعش الذي يحمل فيه الأموات، الذين انقطع نصيبهم في الحياة الدنيا[26]. ومن خلال هذا العرض لأقوال اللغويين والشرّاح في مفردة (حَدَابِير)، ومكانتها في كلام الإمام (عليه السلام)، أجد أن الخروج بدلالة محدّدة لهذه المفردة لا يمكن أن يتم، إلا من خلال فهم الألفاظ المجاورة لها في النص، وهو ما أغفله أغلب اللغويين، ومنهم دارسو الغريب الذين لم يعنوا بتركيب الإضافة في (حَدَابِيْر السِّنِيْن)، وإنما وجهوا عنايتهم إلى لفظة (حَدابير) فقط، إلا بعض المحدثين من دارسي غريب (نهج البلاغة)  الذي أشار إلى أن الإمام قدم الوصف (حَدَابِير)، وأضافه الى(السِّنين)؛ للمبالغة في الجدب والقحط لتلك السنين المترادفة بعضها على البعض الآخر[27]. وهذهِ التفاتة جيدة، ومثرية لدلالة النص، وأزيد عليها أن لفظة (حَدَابِير) بهذا التركيب اكتسبت معنى جديداً نقلها من دلالتها الأولى إلى الدلالة على القحط والجدب وصعوبة الحياة، منفصلة بذلك عن معناها الأول الذي هو الناقة المهزولة التي نشز عظم ظهرها من التعب وكثرة الأسفار. فتكون هذه الكلمة قد خضعت لقوانين التطور اللغوي واتساع الدلالة شأنها في ذلك شأن الكثير من الالفاظ التي انتقلت من دلالتها الوضعية إلى دلالات أخرى. وبهذا تصبح مفردتا (حَدَابِيْر، وحِدْبَار) تدلان على جدب السنين وقحطها، وذلك على سبيل الحقيقة لا المجاز كما اختار لها بعض المعجميين أن تكون[28].ومما يعين على ذلك حروف الكلمة نفسها التي تفيد في أصلها الثلاثي الإيحاء بالعلو والارتفاع[29]. ولا بأس أن يكون هذا العلو والارتفاع دالاً على ارتفاع الجدب والقحط وبلوغهما أقصى الغاية في القحط، ومن ثم باضافة الحرف الرابع للكلمة هو (الرَّاء) الذي تصير به(حَدْبَرَ) كلمة رباعية[30] توحي بالشدة والقسوة من خلال اجتماع أحرفها، وبهذه الصورة أصبحت الكلمة المتقدمة لفظة (غريبة) كما صنفها السيد الشريف الرضي عند شرحه كلام الإمام[31]. وزاد بعض الباحثين المحدثين على ذلك، بأن جعلها من (الحُوْشِي، أو الوَحْشِي) من الألفاظ[32]. غير أنّ ذلك لا يعني النفرة منها، أو أنها غير مناسبة لذوق السامعين، وإنما يدل ذلك على فصاحتها ومناسبتها لزمن بدت فيه دلالتها عالية مع كونها تتضمن الإيحاء بالشِدّة والصعوبة والالم)[33].

الهوامش:
[1] ينظر: العين (حدبر): 3/335، وتهذيب اللغة (حدبر): 5/215.
[2] ينظر: تهذيب اللغة (حدبر): 5/215.
[3] ينظر: القاموس المحيط (حدبر): 1/477، وتاج العروس (حدبر): 10/564.
[4] ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: 103.
[5] اعتكر. أي كرَّ وانصرف، واعتكر عليه. إذا حمل عليه. ينظر: لسان العرب (عكر): 4/599.
[6] المخايل جمع مَخيَلة، وهي السحابة التي إذا رايتها حسبتها ماطرة. ينظر: لسان العرب (خيل): 11/228.
[7] نهج البلاغة: خ/115: 215.
[8] ينظر: العين (حدبر): 3/335.
[9] نفسه.
[10] ينظر: تهذيب اللغة (حدبر): 5/215، ولسان العرب (حدبر): 1/301، وتاج العروس (حدبر): 10/564.
[11] نهج البلاغة: خ/115: 217، 218.
[12] ديوانه: 86. وفيه: ((حَرَاجِيْجُ ماتَنْفَكُّ...)) بدلاً من (حَدَابِير).
[13] ينظر: شرح نهج البلاغة (البحراني): 3/548.
[14] ينظر: الديباج الوضي: 2/960.
[15] شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد): 7/207.
[16] ينظر: الفائق في غريب الحديث: 1/269، والنهاية في غريب الحديث: 1/350، وغريب نهج البلاغة: 183.
[17] ينظر: النهاية في غريب الحديث: 1/350.
[18] نفسه.
[19] ينظر: المحكم (حدبر): 4/72، والقاموس المحيط (حدبر): 1/477.
[20] الفائق في غريب الحديث: 1/269، والنهاية في غريب الحديث: 1/350.
[21] ينظر: لسان العرب (نجج): 2/374.
[22] ينظر: أساس البلاغة (حدب): 1/115.
[23] ينظر: الفائق في غريب الحديث: 1/269، والنهاية في غريب الحديث: 1/350.
[24] ينظر: القاموس المحيط (حدبر): 1/477، وتاج العروس(حدبر): 10/564.
[25] ينظر: غريب نهج البلاغة: 184.
[26] ينظر: أساس البلاغة (حدب): 1/115.
[27] ينظر: غريب نهج البلاغة: 184.
[28] ينظر: تاج العروس (حدبر): 10/564.
[29] ينظر: مقاييس اللغة (حدب): 2/36.
[30] ينظر: أساس البلاغة (حدب): 1/115.
[31] ينظر: نهج البلاغة: 217.
[32] الحُوْشي، أو الوَحْشِي من الألفاظ هو ضَرب من الغريب الذي ينقسم على قسمين، الأول مستقبح غليظ منفور منه، والثاني حَسَنٌ لطيف رقيق اللفظ متناسق المخارج، ولكنه غير مستعمل في زماننا، وقد استعمله الأولون، فهو وحشي عندنا، وغير وحشي عندهم. وقد اخذوا تسميته من النظر إلى (الوحوش) التي عد منها الغزال أيضاً ناظرين في ذلك إلى نفارها وعدم الفتها للبشر. وبهذا تكون اللفظة الحوشية هي اللفظة المستعملة في زمان دون زمان آخر وكلام الإمام مُبَرّءٌ من الالفاظ المستهجنة. ينظر: تفصيل ذلك في: غريب نهج البلاغة: 181: 182.
[33] لمزيد من الاطلاع ينظر: ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة: للدكتور حسام عدنان رحيم الياسري، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 33-38.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.8252 Seconds