القيم الخلقية في فكر الإمام علي (عليه السلام) 1ـ العلاقة بين الأخلاق والدين في فكر علي عليه السلام

مقالات وبحوث

القيم الخلقية في فكر الإمام علي (عليه السلام) 1ـ العلاقة بين الأخلاق والدين في فكر علي عليه السلام

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 03-07-2024

بقلم: د. جليل منصور العريَّض

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:
يكاد الكثير من علماء الأخلاق أن يميزوا بين الأخلاق الدينية وبين الأخلاق في القانون الوضعي([1])، ولكنا بدراستنا للأخلاق الإسلامية لا نجد «ثمة تمييز بين القانون والواجب الخلقي([2]). فإذا كان أولئك ينظرون إلى الدين نظرة تجريدية، فإن بنظرتهم تلك لا يمكن تطبيقها على الإسلام لأنه «على العكس م ذلك، ظاهرة مجسدة تماماً وينبغي ان يدرك بكليته وخارج حدود الزمان»([3]). فالقيمة الأخلاقية من المرتكزات التي انبنت عليها دعائم الإسلام منذ بداية ظهوره وانتشاره، فحين سأل نجاشي الحبشة الذي لجأوا إلى بلاده من المهاجرين الأولين عن دينهم الذي فروا به من اضطهاد قريش، أجابه جعفر بن أبي طالب([4]) بالقول «كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام... حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافة، فدعانا إلى الله نوحده ونعبده، ومخلع ماكنا نعبد واباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وامرنا بصدق الحديث واداء الامانة وصلة الرحم وحسن الجوار، واكلف عن المحارم، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات...»([5]) فالعقائد والعبادات ليست مجرد طقوس إليه يمارسها المسلم، إذ يجب أن تدرك معانيها وأن تطبق تطبيقاً عملياً كيلا تكون معان مجردة، فمعنى الإيمان كما يقول علي عليه السلام: «معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان»([6]) فهناك تلازم تام بين المعرفة والقول والعمل، فقول علي عليه السلام على سبيل المثال للإنسان «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً»([7]) مبنية على مضمون عملي يكمن في العبادات المتمثل في قول المسلم في صلواته الخمس يوميا «الله أكبر، ومعناه أن العقل الفاعل إذا تفكر في عمق المقولة سيجد نفسه قد اوصد الباب في وجه كل عبودية... وانه اعلن نفسه وحقق ذاته حراً بشكل أساسي([8]) وهذه الحرية المؤمنة تعطي الإنسان احساساً بالأمان فيندفع إلى الاصلاح والبناء داخل المجتمع نفس مطمئنة دون رهبة من أية قوة مهما عظمت، ومن خلال ذلك الاعتقاد الحر ينبني اقتناعه على «أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله وانهما لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق»([9]) لاعتقاده القوي الراسخ بأن المحيي والرزاق هو الله سبحانه. فالقاعدة الأخلاقية الإسلامية كما نستخلصها من فكر علي عليه السلام مشيدة على «معاير الهي وعقلي وتنطلق منه إلى التطبيق العملي»([10]) فالشيء يوصف بأنه لقي أو غير خلقي، وعطي قيمته من هذه الناحية أو تلك، من خلال ممارسته كواقع، ويشمل ذلك ـ كما يرى علي عليه السلام ـ كل ما نص عليه السلام من عقائد وعبارات وأوامر ونواهي، ويمكن استنتاج ذلك من قوله «فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيها عن الكبر، والزكاة تسبباً للرزق، والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق، والحج تقربه للدين، والجهاد عزا للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحة للعوام، والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء، وصلة الرحم منماة للعدد، والقصاص حقنا للدماء، وإقامة الحدود إعظاما للمحارم، وترك شرب الخمر تحصيناً للعقل، ومجانبة السرقة إيجاباً للعفة، وترك الزنا تحصيناً للنسب، وترك اللواط تكثيراً للنسل، والشهادة استظهاراً على المجاحدات، وترك الكذب تشريفاً للصدق والسلام اماناً من المخاوف، والامانات نظاماً للأمة، والطاعة تعظيما للإمامة»([11]) فشمولية النص قائمة على نظام محكم من التلازمات الدينية ونتائجها الاجتماعية بحيث لا يمكن بأية حال من الأحوال تجزئة المضمون إلى وحدات دينية وأخرى أخلاقية، وهذا يوصلنا ـ كما نعتقدـ إلى نتيجة مفادها، ان فكر علي عليه السلام الأخلاقي بما حواه من شمولية وثراء نابع في الأساس ـ من معتقد ديني راسخ على قواعد متينة مرتكزاتها أن «لا تمييز في العقيدة الإسلامية بين الواجب القانوني والواجب الخلقي»([12]) وقد توحي كلمة واجب في السياق على الالزام الآلي اللاواعي بالنسبة للأخلاق، مما يحيل القيم إلى قوانين قسرية، لا دخل للإرادة الواعية في رفضها لكونها نابعة من إرادة إلهية، فإلى أي مدى يصدق ذلك على فكر علي عليه السلام الأخلاقي؟)([13]).

الهوامش:
([1]) للاطلاع على تلك الآراء كاملة من الناحيتين التاريخية والفلسفية راجع ـ وليام ليلي ـ المدخل إلى علم الأخلاق ص 445 وما بعدها ـ ترجمة ـ علي عبد المعطي أحمد.
([2]) مارسيل بوازار ـ إنسانية الإسلام ص 18.
([3]) المصدر السابق ، ص، 38.
([4]) جعفر ابن أبي طالب بن عبد المطلب بن هشام القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وأخو علي ابن أبي طاب عليه السلام لأبويه، وهو جعفر الطيار، كان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله خَلقا وخُلقاً، اسلم بعد إسلام أخيه علي عليه السلام بقليل، روي ان أبا طالب رأى النبي صلى الله عليه وآله وعلياً عليه السلام يصليان، وعلي عليه السلام عن يمينه، فقال لجعفر: صل جناح ابن عمك وصل عن يساره، وله هجرتان: هجرة إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة، استشهد في غزوة مؤتة سنة ثمان هجرية ـ راجع: أسد الغابة 1/ 341 وما بعدها.
([5]) ابن هشام ـ السيرة 1/ 359، 360.
([6]) حكم ـ 225 وراجع أيضاً الحكمة 122.
([7]) رسائل ـ 31 ـ فقرة 21.
([8]) إنسانية الإسلام السابق ص 116.
([9]) خطب 156ـ الفقرة 50.
([10]) محمد جواد مغنية ـ فلسفة الأخلاق في الإسلام ص 21.
([11]) حكم ـ 251.
([12]) انسانية الإسلام السابق ص 18.
([13]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص406-412.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2439 Seconds