الألفاظُ التي تدلُّ على الأعمال الزراعية وما يتعلق بها في نهجِ البلاغةِ 3- الرَّعـِــي

مقالات وبحوث

الألفاظُ التي تدلُّ على الأعمال الزراعية وما يتعلق بها في نهجِ البلاغةِ 3- الرَّعـِــي

58 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 11-03-2025

بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي

الحمد لله الأول قبل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..

اما بعد:
ورد هذا اللفظ في اثنين وسبعين موضعاً من النَّهْج، ليدل على:
معنى حقيقي، ومنه قوله (عليه السلام): «يَا أهل الْكُوفَةِ، مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلاَث وَاثنَتَيْنِ: صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاع، وَبُكُمٌ ذَوُو كَلاَم، وَعُمْيٌ ذَوُو أَبْصَار، لاَ أَحْرَارُ صِدْق عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلاَ إِخْوَانُ ثِقَة عِنْدَ الْبَلاَءِ! تَرِبَتْ أَيْدِيكُمْ! يَا أَشْبَاهَ الاْبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا !...» ([1])، وهو تشبيه تمثيل وهو تمثيل سلبي فقد تباطأ أهل الكوفة عن نصرة الحق فشبههم في تفرقهم ونفارهم واضطرابهم بالإبل التي غاب عنها رعاتها فلا من مهدٍ يهديها ولا حارس يرعاها، ووصفه هنا في غاية التقريع والتوبيخ بل ويتعدى الى الإقذاع الذي يصل الى الهجاء، فوصفهم بالإبل تحقير لهم، وقد حطم الامام كل فرصة لهم في النجاة ([2])، والأصل في الجملة (غاب رعاتها عنها)، الا انه قدم الجار والمجرور للتأكيد.

 وقال (عليه السلام) في أمر البيعة: «فَتَدَاكُّوا عَلَيَّ تَدَاكَّ الاْبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا، قَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا، وَخُلِعَتْ مَثَانِيهَا» ([3])، فصوَّر منظرهم وهم مقبلون عليه سراعا في جموعهم المتلاحقة والمتزاحمة بدون قائد او مرشد بمنظر قطيع ابل عطاش انطلقت يوم شربها الى مورد مائها بعد ان تركها راعيها([4]).

  والرَعِّى في الأصل حِفْظُ الحيوان إما بغذائه الحافظ لحياته، وإما بذب العدو عنه.  يقال: رَعَيتُه أي حِفِظته وارعيته جعلت له ما يرعى.  والرٍعْى ما يرعاه والمَرعى موضع الرًعى، وقد جعل الرًعى والرٍعاء للحفظ والسياسة([5]).

 وقوله: «يَا أيُّها النَّاسُ، مَتَاعُ الدُّنْيَا حُطَامٌ مُوبِىءٌ فَتَجَنَّبُوا مَرْعَاهُ!»([6])، فشبَّه متاع الدنيا بالحطام ومعناه (المتكسر من الحشيش واليبس)، ووجه الشّبه حقارته، ومَرْعَاة: بقعة تُرعَى، كقولك مأسدة فيها الأسد.

   وقال (عليه السّلام) في الموعظة وبيان قربه من الرسول (صلى الله عليه واله وسلم): «مَالي أَرَاكُمْ عَنِ اللهِ ذَاهِبِينَ، وَإِلَى غَيْرِهِ رَاغِبِينَ! كَأَنَّكُمْ نَعَمٌ أَرَاحَ بِهَا سَائِمٌ إلَى مَرْعىً وبيّ» ([7]).  فالسَائم هو الراعي ومرعى اسم مكان على زنة (مـَـفْـعــَـــل) والوبي محل الوباء، والدوي محل الداء، وشبه بينهم وبين الأنعام لغفلتهم ونفوسهم الأمَّارة بالسُّوء القائدة الى المعاصي فهم كالرَّاعي القائد الى المرعى الوبي ولذّات الدنيا ومشتهياتها وهي محل الآثام التي هي مظنة الهلاك الآخروي([8]).

  والمصدر منه رَعْيا.  والرًعي: الكَلأ.  والرًاعي يَرْعاها رعاية إذا ساسها وسرحها.  وكلُّ من وَلِي من قومٍ أمراً فهو راعيهم.  والقوم رَعيًته. والرًاعي: السًائس، والمَرعِي:  المَسوس. والجميع: الرِّعاء مهموز على فِعال رواية عن العرب، ويجوز على قياس أمثاله: راعٍ ورُعاة مثل داعٍ ودُعاة ([9]).
فالراء والعين والحرف المعتل اصلان: أحدهما المراقبة والحفظ، والاخر: الرجوع.  فالاول رَعيت الشًيء: رَقَبتُه؛ ورَعَيْته، إذا لاحَظْته.  والراعي: الوالي، والجميع الرٍعاء، وهو جمع على فِعال نادر، ورُعاة ايضا، وراعيت الامر: نظرت إلام يصير([10]).
والرًعْيُ: مصدر رَعْى الكلأ ونحوه يرعى رَعْيا.  والرًاعي يَرْعى الماشية أي يحوطها ويحفظها.  والماشية تَرْعى:  أي ترتفع وتأكل،  وراعي الماشية:  حافظها،  صفة غالبة غلبة الاسم،  والجمع رُعاة مثل قاض وقضاة،  والرًعِيًة:  الماشية الرًاعية او المرعِيًة،  وفي التنزيل: « حتى يُصْدِرَ الرٍعاءُ» جمع الراعي،  قال الازهري:  واكثر ما يقال رُعاة للولاة،  والرٌعْيان لراعي الغنم([11])،  ومنه قوله تعالى:  {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى}([12])،  فقدم (سبحانه وتعالى)  الأنفس على الرعاية ؛ لأنَّ الأزواج من النبات أعمُّ من الزرع،  وكثير منه يصلح للإنسان في أول ظهوره مع أنَّ الخطاب لهم فناسب أن يقدموا،  وهي الآية الوحيدة التي تقدمت فيها الأنعام على الأنفس، قدَّم الأنعام لأن انتفاعها مقصور على النبات،  ولأن أكلها منه مقدم،  لأنها تأكله قبل أن يثمر،  ويخرج سنبله([13]))([14]).

الهوامش:
([1]) نهج البلاغة: خ 91، 93.
([2]) ظ: اسلوب علي بن ابي طالب في خطبه الحربية: 322.
([3]) نهج البلاغة: خ 54، 50.
([4]) ظ: بلاغة الامام علي: احمد محمد الحوفي: 109.
([5]) المفردات في غريب القران: 1 / 26.
([6]) نهج البلاغة: الحكم القصار: 367، 406، والوبي: الردي الذي يجلب الوباء.
([7]) خ 175، 180.
([8]) ظ: منهاج البراعة: 10 / 153.
([9]) ظ: العين (مادة رعى):  2 / 240.
([10]) ظ: مقاييس اللغة: 2 / 408.
([11]) ظ: لسان العرب (مادة رعى): 3 / 1677.
([12]) طه / 54.
([13]) ظ: فتح البيان: صديق حسن خان: 11 / 35.
([14]) لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 259-264.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2966 Seconds