فاروق الله، فصل وتفرد

فضائل الإمام علي عليه السلام

فاروق الله، فصل وتفرد

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 26-02-2021

خُطَى الخُزَاعي

تنحت سُنَّة المألوف جانبًا في فاصلة من الزمن بعد أن تسيَّد الإعجاز تفاصيل المشهد، ليتمخض والكعبة عن نور متميز تصدَّع له جدارها خاشعًا، منبئًا عن الولادة الفارقة في هذا العالم، فتُلازم بعد ذلك المولى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) من حين الولادة إلى حين الشهادة؛ بل إلى العوالم الأخرى الشؤون الفارقة التي قدَّمته للأُمة الحجة البالغة بلا منازع.
أراده الله تعالى أنموذجًا أكملًا في الهداية بعد أن علم أنَّه قابلًا أكملًا في تلقي الفيض، فقال تعالى مخاطبًا العقول: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (يونس:35)، وبقابلية الفرق الملازمة له مع سائر قابلياته (صلوات الله عليه) تعبَّد طريق الهداية حيث دين الله تعالى الحق، ليقف (صلوات الله عليه) حادًا هذا الطريق وفارقًا له عن السبل المؤدية إلى حيث المزالق والهلكات.

 أثبته رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاروقًا للأُمة أعظمَ وأكبر؛ إذ قال (صلى الله عليه وآله): ((وأنت الفاروق الأعظم))([1])، ((وعلي الفاروق الأكبر))([2])، ثم فصَّل (صلى الله عليه وآله) في تجليات هذا اللقب الشريف، مبينًا شؤون فرقه (صلوات الله عليه) التي أضاءت على طرف ممَّا استأهل به (صلوات الله عليه) هداية الأمة والسير بها إلى حيث تكاملها وسعادتها، فكان من تلك الشؤون: أنَّه يفرق بين الحق والباطل، إذ قدَّم (صلى الله عليه وآله) لهذا المعنى نقلًا وافرًا ننتخب منه قوله (صلى الله عليه وآله): ((هذا أول من آمن بي، وأول من صدقني، وهو الصديق الأكبر، وهو الفاروق الأكبر الذي يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب المؤمنين، وضياء في ظلمة الضلال))([3])، وكذلك: ((وهو الفاروق، يفرق بين الحق والباطل، من أحبه هداه الله، ومن أبغضه أبغضه الله، ومن تخلف عنه محقه الله))([4])، ثم إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيَّن في حديث مشهور: ((إنَّ عليًّا مع الحق والحق معه يدور معه كيفما دار))([5])، قاطعًا سبيل العذر والذريعة على الأمة فيما لو تخلفت عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وهي تواجه عواصف الاختلاف من بعده (صلى الله عليه وآله)، إذ لا يُتصور بعد هذا البيان المحكم أن يشتبه الحق على أحد، وهو يعلم بالبيان المعصوم أنَّه في جهة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) حصرًا وأبدًا، فليس هناك مجال لافتراض اشتباه أو تردد في المقام؛ وإنَّما هما طريقان لا وسطية بينهما إمَّا حق صريح باتباعه وإمَّا باطل صريح بالتخلف عنه، هكذا تجلَّى فارقًا (صلوات الله عليه).
ومن شؤونه بوصفه الفاروق (صلوات الله عليه) أيضًا أنَّه يفرق ويمايز بين الأيمان وما سواه من نفاق أو كفر، وقد جاء في الأثر الشريف بيان ذلك وتأكيده؛ فقال (صلى الله عليه وآله): ((أبشر يا علي، فإنَّ الله (عزَّ وجلَّ) قد عهد إليَّ أنَّه لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق)) ([6])، وأيضًا: ((قضى فانقضى أنَّه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا كافر منافق)) ([7])، وعن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): ((إن الله أخذ ميثاق كل مؤمن على حبي، وأخذ ميثاق كل منافق على بغضي، فلو ضربت وجه المؤمن بالسيف ما أبغضني، ولو صببت الدنيا على المنافق ما أحبني)) ([8])، وعن جابر قال: ((والله والله ما كنَّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا ببغضهم عليًّا))([9])، وأيضًا ((لولاك ما عُرف المنافقون من المؤمنين)) ([10])، ثم إنَّه بحبِّه (صلوات الله عليه) سيُفرز المسلمون أيضًا إلى طيبي المولد وخبيثي المولد؛ وممَّا جاء في ذلك: ((يا علي لا يحبُّك إلا من طابت ولادته، ولا يبغضك إلا من خبثت ولادته، ولا يواليك إلا مؤمن، ولا يعاديك إلا كافر))([11])، وقد كان من سيرة المسلمين الأولين كما جاء على لسان جابر بن عبد الله (رضوان الله عليه) أنَّهم يعرضون حبَّ أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) على أولادهم فمن أحبه كان طيب الولادة ومن أبغضه لم يكن كذلك([12]).
ومع نصيبا الجنة والنار من الناس، يتجلى شأن أعظم في فاروقيته (صلوات الله عليه)؛ إذ يُقلَّد وسام القسيم بينهما، حيث يرتب أهل الحق والإيمان درجاتهم في الجنان، وينزل أهل الباطل والكفر والنفاق دركاتهم في النار، وقد ورد في ذلك نقل كثير ننتخب منه باقة ومنها ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((يا علي، أنت قسيم الجنة والنار، بمحبتك يعرف الأبرار من الفجار، ويميز بين الأشرار والأخيار، وبين المؤمنين والكفار)) ([13])، و((عن أبي الصامت الحلواني عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: أمير المؤمنين (عليه السلام): أنا قسيم الله بين الجنة والنار لا يدخلهما داخل الَّا على قسمين وأنا الفاروق الأكبر))([14])، و((عن سماعة بن مهران قال: قال: أبو عبد الله (عليه السلام)؛ إذا كان يوم القيامة وضع منبر يراه الخلايق يصعده رجل يقوم ملك عن يمينه وملك عن شماله، ينادي الذي عن يمينه يا معشر الخلايق هذا علي بن أبي طالب (عليه السلام) صاحب الجنة يدخلها من يشاء، وينادي الذي عن يساره يا معشر الخلايق هذا علي بن أبي طالب (عليه السلام) صاحب النار يدخلها من يشاء)) ([15])، وأخيرًا ((عن المفضل بن عمر قال: قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) لِمَ صار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قسيم الجنة والنار؟ قال: لأنَّ حبه إيمان وبغضه كفر، وإنَّما خلقت الجنة لأهل الإيمان، وخلقت النار لأهل الكفر، فهو (عليه السلام) قسيم الجنة والنار، لهذه العلة فالجنة لا يدخلها إلا أهل محبته، والنار لا يدخلها إلا أهل بغضه)) ([16]).
وفضلًا عمَّا تقدَّم من معنى، كان (صلوات الله عليه) على رأس فارق كبير متفردًا عن سائر الخلق من الأولين والآخرين في كل ما ارتبط به، حتى أصبح الآية الفارقة المتفردة في الكون، وهو القائل تفديه النفوس: ((ما لله آية أكبر مني)) ([17])، فما بين نور محدق بعرش الله يسبحه مصاحبًا لنور النبي (صلى الله عليه وآله) الأول، مرورًا بولادة استثناء في عالم الخلقة، إلى حيث خاتمة لم تتكرر؛ إذ ائتلفت فيها صلاة وصيام مع شهادة، لتستقبله في العوالم الأخرى ما يسانخها من أوسمة تفرد.   
مباركة ولادة فاروق الله([18])، جعلنا الله تعالى ممَّن يَصُفُّهم أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) إلى يمينه حيث الحق والإيمان والجنة، وصلى الله على محمد وآل محمد.  

الهوامش:
[1] بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت: 1111): 31/381.
[2] مناقب الإمام أمير المؤمنين (ع)، محمد بن سليمان الكوفي (ت: ح300): 1/ 152.
[3] اليقين، السيد ابن طاووس (ت: 664): 508.
[4] الإمامة والتبصرة، علي ابن بابويه القمي (ت: 329): 111-112.
[5] الفضائل، شاذان بن جبرئيل القمي (ابن شاذان)(ت: 660): 145.
[6] الأمالي، الشيخ الصدوق (ت: 381): 197.
[7] الخصال، الشيخ الصدوق: 558.
[8] الغارات، إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي (ت: 283): 2/520.
[9] مناقب الإمام أمير المؤمنين (ع): 2/480، ح979.
[10] الخصال: 580.
[11] كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق: 261.
[12] ينظر: علل الشرائع، الشيخ الصدوق: 1/ 143.
[13] الأمالي، الشيخ الصدوق: 101 
[14] بصائر الدرجات، محمد بن الحسن بن فروخ (الصفار) (ت: 290): 435.
[15] بصائر الدرجات، محمد بن الحسن بن فروخ (الصفار) (ت: 290): 435-436.
[16] علل الشرائع، الشيخ الصدوق: 1/162.
[17] بصائر الدرجات: 97.
[18] تمييزًا عن فاروق الشيطان المنتحل.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2906 Seconds