بقلم: أ. د. ختام راهي الحسناوي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام عل خير الخلق أجمعين محد وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
كانت الوسيلة الثانية لمعاوية في محاربة فضائل الإمام علي عليه السلام في هذه الحقبة الزمنية، هي التمويه على فضائل الإمام بفضائل الخلفاء السابقين، فكانت الإرهاصات الأولى لذلك إدعاؤه أن ترتيبهم في المنزلة كان على قدر فضائلهم في الإسلام، وأن لا فضل لعلي فقال: ((إن الله اصطفى محمداً بعلمه... واجتبى له من المسلمين أعواناً أيده الله بهم، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم في إسلامه، وأنصحهم لله ولرسوله الخليفةُ من بعده، وخليفة خليفته، والثالث الخليفة المظلوم عثمان، فكلهم حسدت، وعلى كلهم بغيت...))[1].
وقد رد الإمام علي على إثارة معاوية مبيناً أن ذلك ليس إليه فقال: ((... وما أنت والفاضل والمفضول، والسائس والمسوس؟ وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم؟... ألا تربع أيها الإنسان على ضلعك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخر حيث أخرّك القدر...))[2].
لقد سرت دعوة معاوية المضلّة في أفضلية الخلفاء في المجتمع الإسلامي، وأنشدها بعض أتباعه شعراً، فقال الوليد بن عقبة[3]:
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
ويقصد أن الخليفة عثمان هو الثالث في المنزلة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأبي بكر، وعمر.
فناقض الفضل بن عباس رأي الوليد وقدّم الإمام علياً (عليه السلام) في الفضل على الثلاثة (أبي بكر وعمر وعثمان) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مستنداً إلى المشهور من مناقبه الجهادية وسابقته وقرابته من النبي (صلى الله عليه وآله) فقال[4]:
ألا إن خير الناس بعد محمد مهيمنه التاليه في العرف والنكر
وخيرته في خيبر ورسوله بنبذ عهود الشرك فوق أبي بكر
وأول من صلّى وصنو نبيه وأول من أردى الغواة لدى بدر
فذاك عليّ الخير مَنْ ذا يفوقه أبو حسن حلف القرابة والصهر
ويبدو أن هذه المفاضلة والترتيب قد وجدت لها أذناً صاغية عند بعض أتباع الإمام علي (عليه السلام) وأغرتْ بعضهم للجدال والمناقشة والمخالفة، فذكر له ذلك الحارث الهمداني[5] فقال: ((... نال الدهر يا أمير المؤمنين مني [و] زادني أواراً وغليلاً اختصام أصحابك ببابك، قال [الإمام علي]: وفيمَ خصومتهم، قال: فيك، وفي الثلاثة من قبلك، فمن مفرطٍ منهم غال، ومقتصد تال، ومن متردد مرتاب، لا يدري أيُقدم أم يُحجم؟))[6].
فتصدى الإمام علي (عليه السلام) لتوعية أصحابه، وإزالة اللبس والشبهة، وزادهم بصيرةً في أمرهم، وعلماً بما له من منزلة ونصيب في المناقب فقال: ((... إن دين الله لا يُعرف بالرجال بل بآية الحق، فاعرف الحق تعرف أهله، يا حارث إنّ الحق أحسن الحديث، والصادع به مجاهد، وبالحق أُخبرك، فأعرني سمعك، ثم خبّر به من كان له حصافة من أصحابك. ألا إنّي عبد الله، وأخو رسوله، وصِدّيقه الأول، صَدّقته وآدم بين الروح والجسد، ثم إني صِدّيقه الأول في أمتكم حقاً، فنحن الأولون، ونحن الآخرون، ونحن خاصته وخالصته وأنا صنوه ووصيه ووليه وصاحب نجواه وسره، أوتيت فهم الكتاب، وفصل الخطاب، وعلم القرون والأسباب، واستُودعت ألف مفتاح، يفتح كل مفتاح ألف باب...))[7].
كانت الخطوة اللاحقة لمعاوية في إبطال فضل الإمام علي هي مساواة نفسه به فكتب إليه: ((... ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعضٍ فضلٌ إلاّ فضلٌ لا يُستذل به عزيز ولا يُسترق حرٌ به))[8].
فردّ الإمام ادعاءه، مؤكداً وجود التفاوت الكبير في ميزان الاخلاق والإيمان بينهما فقال: ((... فلعمري إنّا بنو أبٍ واحد، ولكن ليس أمية كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق، ولا المحق كالمبطل. وفي أيدينا بعدُ فضلُ النبوة التي أذْلَلنا بها العزيز، وأعززنا بها الذليل))[9].
وكذلك حرص معاوية على أن يضاهي فضائل الإمام علي (عليه السلام) ويناظره في مناقبه، وادعى أحياناً أنه يبزّه في الحلم والعلم، وردّ الإمام علي (عليه السلام) ادعائه واصفاً إياه بالنفاق والجبن[10].
بل لقد حاول بعض أتباع معاوية التعمية على تاريخه، واصطناع الفضل والشرف له–بغيره–فقال عمرو بن العاص[11] وهو يحث أبا موسى الأشعري، على اختيار معاوية خليفةً للمسلمين في قضية التحكيم[12]: ((... فما يمنعك يا أبا موسى من معاوية وليّ عثمان، وبيته في قريشٍ ما قد علمت؟ فإن خشيت أن يقول الناس ولّى معاوية وليست له سابقةٌ، فإنّ لك بذلك حجة، تقول: إني وجدت وليّ عثمان الخليفة المظلوم، والطالب بدمه، الحسن السياسة، الحسن التدبير، وهو أخو أم حبيبة أم المؤمنين زوج النبي (صلى الله عليه وآله)، وقد صحبه وهو أحد الصحابة...))[13].
فلا ريب أن يَعجب الإمام علي من تغيّر الحال، والالتفاف عليه وهو أهل الدين والفضل والشرف، ومُقايسته بمن هم دونه فقال: ((كنتُ في أيام رسول الله عليه وآله كجزءٍ من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ينظرُ إليّ الناس كما يُنظر إلى الكواكب في أُفق السماء، ثم غضّ الدهر مني، فقُرن بي فلان وفلان... ثم لم يرض الدهر لي بذلك؛ حتى أرذلني، فجعلني نظيراً لابن هند وابن النابغة!))[14].
وقال: ((فيا عجباً للدهر، إذ صرتُ يُقرنُ بي مَن لم يسع بقدمي، ولم تكن له كسابقتي التي لا يدلي أحد بمثلها، إلاّ أن يدعِ مدّع مالا أعرفه...))[15].[16].
الهوامش:
[1] المنقري، صفين، ص86–87.
[2] نهج البلاغة، ص488 الكتاب رقم 28؛ الخوارزمي، مناقب، ص256، ألا تربع أيها الإنسان على ضلعك: أي ألا ترفق بنفسك وتكف وضلعَ البعير أي غمز في مشيه. ابن منظور، لسان العرب، مادة ضلع.
[3] الشيخ المفيد، الفصول المختارة، ص268.
[4] المصدر نفسه، ص268–269.
[5] الأعور بن عبد الله الهمداني السبعي من كبار التابعين، ومن أفقه علماء عصره، تعلم من أمير المؤمنين (عليه السلام) علماً جماً، وقرأ عليه القرآن. توفي سنة 65هـ/684م.
ابن سعد، الطبقات، 6/168–169؛ الأربلي، كشف الغمة، 1/232، 274، ج2/74–77، ص382؛ الأميني، أصحاب الإمام أمير المؤمنين، 1/131.
[6] الشيخ المفيد، الأمالي، ص4–5؛ الأربلي، كشف الغمة، 2/74–75.
والغال: المفرط في المحبة أو العداوة، والتال: المعتدل الذي يتلو ويلحق به.
[7] الشيخ المفيد، الأمالي، ص5–6.
[8] المنقري، صفين، ص471؛ الدينوري، الأخبار الطوال، ص277.
[9] المنقري، صفين، ص471.
[10] ينظر: البلاذري، أنساب الأشراف، 5/119؛ ابن أعثم، الفتوح، 2/434؛ الطبرسي، الاحتجاج، 1/220؛ المحمودي، نهج السعادة، 4/208.
[11] ابن وائل بن هاشم بن سعيد القرشي السهمي أسلم عام الفتح، فتحت مصر على يده ووليها سنة 20هـ/640م وحتى وفاة عمر بن الخطاب ثم أقرّه عليها عثمان أربع سنين ثم عزله، فوليها ثانية أيام معاوية ومات بها والياً سنة 43هـ/663م. ابن عبد البر، الاستيعاب، 2/508–512.
[12] انتهت معركة صفين باختيار كل طرف نائباً عنه للتفاوض، وتحكيم كتاب الله بين الطرفين، وأسفر التحكيم عن إقرار معاوية وخلع عليّ، وفي بعض الروايات خلع الاثنين وإعادة الأمر شورى، وفي الواقع ظلت الأمور على ما هي عليه. ينظر: ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1/110–111؛ اليعقوبي، تاريخ، 2/165–166.
[13] المنقري، صفين، ص541.
[14] ابن أبي الحديد، شرح النهج، 20/265.
النابغة: أم عمرو بن العاص، كانت أمةً لرجل من عنزة، فسبيت، فاشتراها عبد الله بن جدعان التيمي بمكة، فكانت بغياً ثم أعتقها... وقد إدعى أبو لهب بن عبد المطلب، وأمية بن خلف الجمحي، وهشام بن المغيرة، وأبو سفيان بن حرب، والعاص بن وائل أنهم آباء عمرو بن العاص فحُكّمت أمه فقالت: هو من العاص بن وائل.
المصدر نفسه، 6/226–228، وينظر: ابن عبد البر، الاستيعاب، 2/508.
[15] نهج البلاغة، ص466، الكتاب رقم 9.
[16] لمزيد من الاطلاع ينظر: رواية فضائل الإمام علي عليه السلام والعوامل المؤثرة فيها (المراحل والتحديات)، الدكتورة ختام راهي الحسناوي، ص 66-70.