بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل – الجامعة المستنصرية
((الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي:
قوله عليه السلام: ((وَبَلَغَتْ حُجَّتُهُ))
تدلُّ مادَّة (بَلَغَ) في اللُّغة على الكفاية، والوصول، والانتهاء، والجودة، والغاية، والإدراك. فيُقال: «بَلَغَ الشَّيءُ يبلُغُ بُلُوغاً، وأَبْلَغْتُه إبلاغاً. وبلَّغْتُه تبليغاً في الرِّسالةِ ونحوها. وفي كذا بَلاغٌ وتَبَليغٌ، أَي: كفاية. وشيء بالغٌ، أَي: جيد»[1].
وقال ابن فارس: «الباء واللاَّم والغين أَصلٌ واحد، وهو الوُصول إلى الشَّيء. تقول بَلَغْتُ المكانَ، إذا وَصَلْتَ إليه. وقد تُسَمَّى المُشارَفَةُ بُلوغاً بحقِّ المقاربة. قال الله تعالى: (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)[2]. ومن هذا الباب قولهم هو أَحْمَقُ بِلْغٌ وبَلْغٌ، أَي: إنــَّه مع حماقته يبلغ ما يريده»[3].
وقال الرَّاغب: «البُلُوغ والبَلاغ: الانتهاء إلى أَقصى المقصد والمنتهى، مكانا كان أَو زمانا، أَو أَمرًا من الأُمور المقدَّرة... والبَلاغ: الكفاية»[4].
وقال ابن سيده: «بلغ الشَّيء يبلغ بلوغاً: وصل وانْتهى. وأَبلغه هُوَ، وبَلَّغه... وتبلَّغ بالشَّيء: وصل بِهِ إلى مُرَاده... وَبلغ النــَّبت: انْتهى. وتبالغ الدِّباغ فِي الْجلد: انـْتهى فِيهِ... وبَلَغت النخلةُ، وَغَيرهَا من الشَّجر: حَان إِدْرَاك ثَمَرهَا... وَالْمُبَالغَة: أَنْ تبلغ من الْأَمر جهدك. وَأَمْرٌ بَالِغٌ: جَيِّدٌ. وَرجل بليغ، وبَلْغ، وبِلْغ: حسن الْكَلام فصيحه، يبلغ بِعِبَارَة لِسَانه كُنه مَا فِي قلبه...»[5].
وقال ابن منظور: «بَلغَ الشَّيءُ يَبْلُغُ بُلُوغاً وبَلاغاً: وصَلَ وانْتَهَى، وأَبْلَغَه هُوَ إِبْلاغاً وبَلَّغَه تَبْلِيغاً... وتَبَلَّغَ بِالشَّيْءِ: وصَلَ إلى مُرادِه... البَلاغُ: مَا يُتَبَلَّغُ بِهِ ويُتَوَصَّلُ إلى الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ. والبَلاغُ: مَا بَلَغَكَ. والبَلاغُ: الكِفايةُ... وبَلَّغْتُ الرِّسالةَ. والبَلاغُ: الإِبْلاغُ... والإِبلاغُ: الإِيصالُ، وَكَذَلِكَ التَّبْلِيغُ»[6].
وبهذا المعنى ورد الفعل (بلغ) مرَّتين في الخطبة، مرَّةً أُسند الفعل فيها إلى الحجَّة؛ إذ قال أَمير المؤمنين (عليه السلام): «وبَلَغَتْ حُجَّتُهُ»، أَيْ: وصلت حجَّتُه، وكفتْ، وانتهت إلى النَّاس كافَّة، وأَدركتهم، لهدايتهم[7]، والفعل (بلغت) ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والتَّاء تاء التَّأنيث السَّاكنة لا محلَّ لها من الإعراب، و(حجَّتُه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمير متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائدٍ إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، و(بلغ) من باب (قعد)[8].
وجملة (وَبَلَغَتْ حُجَّتُه) معطوفة على جملة (ونفذَت مشيَّته).
أَمَّا في المرَّة الثــَّانية، فقد أَورده أَمير المؤمنين (عليه السلام) لبيان صفة من صفات النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ في أَداء وظيفة النبوَّة؛ إذ قال (عليه السلام): «... وَشَهِدْتُ بِبَعْثِ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ... بَعَثَهُ فِي خَيْرِ عَصْرٍ... خَتَمَ بِهِ نبُوَّتَهُ، وَقَوَّى بِهِ حُجَّتَهُ، فَوَعَظَ وَنَصَحَ، وَبَلَّغَ وَكَدَحَ...».
وَوُرُوْدُ الفعل (بلَّغ) بهذه الصيغة (فَعَّلَ) إنَّما جاء موافقاً المعنى المراد في الخطبة؛ فَزِنَةُ (فَعَّلَ) لها معانٍ متعدِّدة ذكرها العلماء[9]، منها المبالغة والتَّكثير[10] ــ وهو أَشهرها ــ، ويدلُّ على تكرير الفعل وكثرة القيام به. قال ابن جنِّي: «إنَّما تُخْبِرُ أَنَّ هذا فعل وَقَعَ منك شيئاً بعد شيء على تطاول الزَّمان»[11]، وتدلُّ زنة (فَعَّلَ) على الجَعْلِ أَيضاً[12]، وهو جَعْلُ مفعوله على ما هو عليه، نحو: سُبحانَ الَّذي ضَوَّء الأَضواء، وكَوَّف الكوفة، وبَصَّر البصرة، أَيْ: جعلها أَضواءً، وكوفةً، وبصرةً.
فيكون المعنى: أَنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بلَّغ رسالةَ خالقه، فأَوصلها، وكفتْ، وانتهى بها إلى النَّاس، فأَدركتهم، وكان ذلك كلُّه منه صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بتكرير الفعل، وكثرة القيام به.
و(بلَّغ) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازاً، تقديره (هو) عائدٌ إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ. وجملة (وبلَّغ) معطوفة على جملة (ونصح)[13].
الهوامش:
[1]. العين 1/357.
[2]. الطلاق: 2.
[3]. معجم مقاييس اللغة 1/302.
[4]. مفردات ألفاظ القرآن: 144.
[5]. المحكم والمحيط الأعظم 2/434.
[6]. لسان العرب 8/419. وينظر تهذيب اللغة 3/84، والصحاح في اللغة 1/53، وأساس البلاغة 1/31، والقاموس المحيط 2/345، والعباب الزاخر 1/337، والمصباح المنير 1/368، وتاج العروس 1/5647.
[7]. ينظر: مناقب آل أبي طالب 2/48، وقضاء أمير المؤمنين (عليه السلام) 67، وكنز العمال 8/221، ونهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 2/82.
[8]. ينظر: تاج العروس 1/5647.
[9]. ينظر: ديوان الأدب 2/380-381، والمفصّل 372-373، وشرح الشافية.
[10]. ينظر: أدب الكاتب 354، وشرح الشافية 1/92، وشذا العرف في فن الصرف 21، وأوزان الفعل ومعانيها 82.
[11]. المنصف 1/91.
[12]. ينظر: تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد 75، وشرح الشافية 1/95، وأوزان الفعل ومعانيها 82.
[13]لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 35 –38.