من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام قوله: «وقوَّى به حُجَّتَهُ»

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام قوله: «وقوَّى به حُجَّتَهُ»

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 30-04-2023

بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل – الجامعة المستنصرية

((الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي:
قوله عليه السلام: «وقوَّى به حُجَّتَهُ»
قَوَّى
القوَّة خلاف الضَّعف[1]. «والقُوَّةُ: الطَّاقة من الحبل، وجمعها قِوًى. ورجلٌ شديد القُّوى، أَيْ: شديدُ أَسرِ الخَلْقِ... قَوِيَ الضَّعيف قُوَّةً فهو قَوِيٌّ، وتَقَوَّى مثله، وقَوَّيْتُهُ أَنا تَقْوِيَةً، وقاوَيْتُهُ فَقَوَيْتُهُ، أَيْ: غلبتُه»[2].

وقال الرَّاغب: «القُوَّةُ تستعمل تارة في معنى القدرة، نحو قوله تعالى: (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) [البقرة: 63]، وتارة للتهيُّؤ الموجود في الشَّيء، نحو أَنْ يُقال: النَّوى بِالْقُوَّةِ نخْلٌ [3]، أَيْ: متهيِّئٌ ومترشِّحٌ أَنْ يكون منه ذلك. ويستعمل ذلك في البدن تارةً، وفي القلب أُخرى، وفي المعاون من خارج تارةً، وفي القدرة الإلهيَّة تارةً. ففي البدن، نحو قوله: (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت: 15]... وفي القلب، نحو قوله: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مريم: 12] أَيْ: بقوَّة قلب. وفي المعاون من خارج، نحو قوله: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) [هود: 80] قيل: معناه: من أَتَقَوَّى به من الجند، وما أَتقوَّى به من المال... وفي القدرة الإلهيَّة، نحو قوله: (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 21]... فعامٌّ فيما اختصَّ الله تعالى به من القدرة، وما جعله للخلق. وقوله: (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ) [هود: 52] فقد ضَمِنَ تعالى أَنْ يعطي كلَّ واحد منهم من أَنواع الْقُوَى قَدْرَ ما يستحقُّه... والْقُوَّةُ الَّتي تستعمل للتَّهيُّؤ أَكثر مَنْ يستعملها الفلاسفة، ويقولونها على وجهين: أَحدهما: أَنْ يُقال لما كان موجوداً ولكن ليس يستعمل، فيُقال: فلانٌ كاتبٌ بالقوَّة. أَيْ: معه المعرفة بالكتابة، لكنه ليس يستعمل، والثــَّاني: يقال فلانٌ كاتب بالقوَّة، وليس يعنى به أَنَّ معه العلم بالكتابة، ولكن معناه: يمكنه أَنْ يتعَلَّم الكتابة...»[4].
والقويُّ صفة من صفات الله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ. وقد ذكر الزَّجَّاجي أَنَّ القويَّ: ذو القوَّة والأَيد، ويُقال لِمَنْ أَطلق شيئاً وقدر عليه: (قد قوي عليه)، ولِمَنْ لم يقدر عليه: (قد ضعف عنه)[5].
وفُرِّق بين (القويِّ) و(القادر) بأَنَّ: «الْقوي هُوَ الَّذِي يقدر عَلى الشَّيْء وعَلى مَا هُوَ أَكثر مِنْهُ؛ وَلِهَذَا لا يجوز أَنْ يُقَال للَّذي استفرغ قدرته فِي الشَّيْء إِنَّه قوي عَلَيْهِ، وَإنــَّما يُقَال لَهُ: إنــَّه قوي عَلَيْهِ، إِذا كَانَ فِي قدرته فضل لغيره؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعضهم الْقوي الْقَادِر الْعَظِيم الشَّأْن فِيمَا يقدر عَلَيْهِ»[6].
والفعل «قوَّى» في الخطبة الفعلُ الثــَّالث الذي أَورده أَميرُ المؤمنين (عليه السلام) بعد الفعلين «بعثه» و«ختم» لبيان بعثة النَّبيِّ الأَعظم ــ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ــ، إذ قال (عليه السلام): «وشَهِدْتُ بِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ... بَعَثــَهُ في خَيْرِ عَصْرٍ... خَتَمَ بِهِ نـُبُوَّتَهُ، وَقَوَّى بِهِ حُجَّتَهُ».
وورد هذا الفعل «قوَّى» مرَّةً واحدةً في الخطبة، وتطابقت فيها دلالة بنائه مع دلالته اللُّغوية، مشيراً فيها أَمير المؤمنين (عليه السلام) إلى فائدة من فوائد بعثة الأَنبياء، وهي تقوية الحجَّة على العباد؛ إذ إنَّ للأَنبياء الإلهيِّين ــ فضلاً عن تعريف البشر، وهدايتهم إلى الطَّريق الصَّحيح للتَّكامل الحقيقيّ للإنسان، وتلقِّي الوحي وإبلاغه النَّاس ــ فوائد وتأْثيرات مهمَّة في مجال تكامل البشر، ومنها تقوية الحجَّة على العباد، يقول ــ تبارك وتعالى ــ : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)[7]، فإنَّه ــ سبحانه وتعالى ــ بمقتضى عدله لا يعذِّب أَو يعاقب حتَّى يتمَّ البيان والحجَّة على العباد؛ وذلك بإرسال الرُّسل والأَنبياء ــ عليهم السلام ــ [8].
و«قوَّى» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح المقدَّر على الأَلف، والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) عائد إلى الله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ، و«به» الباء حرف جرٍّ، والهاء ضمير متَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، و«حُجَّتَهُ» مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمير متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، وجملة (وقوَّى به حُجَّتَهُ) معطوفة على جملة (وَخَتَمَ بِهِ نـُبُوَّتَهُ).
وتقدَّم مع الفعل (يُدعى) أَنَّ هذا الفعل (قوَّى)، وإنْ كان آخره أَلفاً، إلاَّ أَنَّ هذه الأَلف ليست أَصليَّة، بل هي منقلبة عن الياء، فتقول: قوَّى يقوِّي تقويةً، فوجود هذه الأَلف مع الفعل (قوَّى) لا يقدح بالخطبة المُوْنِقَةِــ محلِّ البحث ــ كونها خاليةً من الأَلف)[9].

الهوامش:
[1]. ينظر: العين: 1/417، والصحاح في اللغة: 2/102، والمحيط في اللغة: 2/8.
[2]. الصحاح في اللغة: 2/102.
[3]. أي: يمكنه أنْ يصير نخلاً.
[4]. مفردات ألفاظ القرآن: 693 و694. وينظر: تهذيب اللغة: 3/293، والمحكم والمحيط الأعظم: 3/70، ولسان العرب: 15/206، والمصباح المنير: 8/18.
[5]. ينظر: اشتقاق أسماء الله: 149.
[6]. الفروق اللغوية: 1/299، وينظر: كتاب الأضداد (للسجستاني): 93، وكتاب الأضداد (لابن السكّيت): 167.
[7]. النساء: 165.
[8]. ينظر: دروس في العقيدة الإسلامية: 213 و214، ومعارف الإسلام: 35.
[9] لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 133-136.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.6687 Seconds