من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام دلالة الفعل ((جُذِبَتْ)) في قوله عليه السلام:«وجُذِبَتْ نَفْسُه»

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام دلالة الفعل ((جُذِبَتْ)) في قوله عليه السلام:«وجُذِبَتْ نَفْسُه»

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 04-07-2024

بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل

الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي:
قوله عليه السلام: «طَمَحَ بِنَظَرِهِ».

جُذِبَتْ

تدلُّ مادَّة (جَذَبَ) في اللُّغة على الانتهاء، والانقطاع، والبتر، والمضيِّ، والذَّهاب، والابتعاد. جاء في (العين): «... والجذبَة: البُعد، وفلان مِنَّا جَذَبَةٌ، أَيْ: بعيد»[1].
ويقال للنَّاقة إذا غرزت، وذهب لبنها: قد جذبت، فهي جاذب. وجَذَبَ فلان حبلَ وصالهِ، وجَذَمَهُ: إذا قطعه[2].
وجاء في (معجم مقاييس اللُّغة): «الجيم والذَّال والباء أَصل واحد يدلُّ على بتر الشَّيء. يُقال: جذبت الشَّيء أَجذبُه جذباً. وجَذبْتُ المهر عن أُمه إذا فطمتَه، ويقال ناقة جاذب، إذ قلَّ لبنُها... لأَنــَّه إذا قلَّ لبنها فكأَنــَّها جذبته إلى نفسها»[3].
ويُقال: جذبت المهر عن أُمه، أَيْ: فطمته. والجَذْبُ: انقطاع الرِّيق. وجَذَبَ الشَّهر: مضى عامَّتهُ، وجاذبتُهُ الشَّيء: إذا نازعتُه إيَّاه، والتَّجاذب: التَّنازع، والإنجذاب: سرعة السَّير[4].
وقال ابن سيده: «وناقة جاذبة، وجاذب، وجَذُوب: جَذَبَتْ لبنَها من ضرعها، فذهب صاعداً... وقد جَذَبت تَجْذِبُ جِذَاباً. وجَذَب الشَّاةَ والفصيل يَجْذبُهما جَذْباً: قطعهما عن الرِّضاع... جَذَبَت الأُمُّ وَلدَها تَجْذِبُه: فطمته... وجَذَبَ النَّخْلَةَ يَجْذِبُهَا جَذْباً: قَطعَ جذبَها ليأكلَه»[5].

وجاءت هذه المعاني ــ أَيْ: الانتهاء، والانقطاع، والبتر، والمضيُّ، والذَّهاب، والابتعاد ــ مجتمعة في هذا الفعل (جُذِبَتْ نفسه) في الخطبة؛ إذ أَورده أَمير المؤمنين (عليه السلام)  مرَّة واحدة، وهو ثامن الأَفعال الثــَّمانية وآخرها، الَّتي أَوردها أَمير المؤمنين (عليه السلام)  في بيان حال الإنسان المحتضَر. فبعد أَنْ قيل: إنه موعوك، وجسمه منهوك، وجَدَّ في نزع شديد، وحضره كلُّ قريب وبعيد، فيشخص ببصره، ويطمح بنظره، ويرشح جبينُه، ثــُمَّ يسكن حنينه، فتكون النَّتيجة النِّهائيَّة أَنْ تنتهي نفسه، وتنقطع، وتُبتَر، وتمضي، وتذهب، وتبتعد عن جسده؛ وقد أَحسن أَمير المؤمنين (عليه السلام)  في اختيار هذا الفعل لبيان هذه المرحلة، وهي المرحلة الأَخيرة من مراحل الإنسان المحتضَر؛ فبه ــ أَيْ: الفعل ــ اجتمعت كلُّ هذه المعاني المناسبة وحال ذلك الإنسان في تلك المرحلة.
وقد ورد هذا الفعل في الخطبة مبنيّاً للمجهول، ومعلوم أَنَّ لحذف الفاعل، وإقامة المفعول مقامه، أَغراضاً قسَّمها النَّحويُّون على أَغراض لفظيَّة، ومنها: الإيجاز والاختصار، ورعاية الفاصلة والتقارب بين الفِقَر. ومعنوية، ومنها: العناية بالمفعول به، والتَّركيز على الحدث، والعلم بالفاعل، والجهل به، والتَّنزيه، والتَّحقير والتَّوهين، والتَّعظيم، والإعمام والشُّمول، وعدم ترتُّب الفائدة من ذِكْر الفاعل[6].
وإنَّ الغرض اللَّفظي في النُّصوص اللُّغوية الرَّفيعة لا يعدو الغرض الأَول؛ إذ إنــَّه يأْتي تابعاً بعد استيفاء تمام حقِّه [7]. وممَّا يجدر ذِكْرُه أَنَّ الغرض من حذف الفاعل قد يختلف باختلاف حال المُخْبِر والمُخْبَر عنه، ومدى العلاقة بينهما، أَو مقتضى الحال الَّتي تجمعهما. وقد يكون لحذف الفاعل وبناء الجملة للمجهول غرض واحد، أَو أكثر من غرض[8].

ولعلَّ من قمين القول أَن أَمير المؤمنين (عليه السلام)  أَورد هذا الفعل بصيغة المبني للمجهول، فقال (عليه السلام): (جُذِبَتْ) لأَمرين:
أَحدهما: صعوبة هذا الحال ــ جَذْب نَفْسِ الإنسان ــ وشدَّتها؛ أَيْ: تعظيماً لهذه الحال، فقد ورد في الأَخبار أَن للموت ثلاثة آلاف سكرة، السَّكرة منها أشدُّ من أَلف ضربة بالسَّيف [9]. قال أَبو جعفر الباقر (عليه السلام): «... وإنَّ الكافر لتخرج نفسه سيلاً من شدقه كزبد البعير، أَو كما تخرج نفس البعير» [10].)([11]).

الهوامش:
[1]. العين: 1/474.
[2]. ينظر: تهذيب اللغة: 3/489.
[3]. معجم مقاييس اللغة: 1/393.
[4]. ينظر: الصحاح في اللغة: 1/84.
[5]. المحكم والمحيط الأعظم: 3/280. وينظر: المخصص: 2/380،ولسان العرب: 1/258، والقاموس المحيط: 1/38، وتاج العروس: 1/34.
[6]. ينظر: شرح المفصل: 7/70، وشرح ابن عقيل: 1/499، وشرح ابن الناظم: 93، ومعاني النحو: 2/492، والمبني للمجهول في التعبير القرآني رسالة (ماجستير): 32، والمبني للمجهول في نهج البلاغة (دراسة لغوية) (رسالة ماجستير): 98- 119.
[7]. ينظر: المبني للمجهول في التعبير القرآني (رسالة ماجستير): 98.
[8]. ينظر: المبني للمجهول في نهج البلاغة (دراسة لغوية) (رسالة ماجستير): 89و 99.
[9]. ينظر: معالم الزلفى في معارف النشأة الأولى والأُخرى: 1/256.
[10]. المصدر نفسه: 1/279.
([11]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص185-187.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2879 Seconds