الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام في خطبة له (عليه السلام) ومنها يقول في رسول الله صلى الله عليه وآله ((ولَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وآله) مَا يَدُلُّكُ عَلَى مَسَاوِئِ الدُّنْيَا وعُيُوبِهَا))

سلسلة قصار الحكم

الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام في خطبة له (عليه السلام) ومنها يقول في رسول الله صلى الله عليه وآله ((ولَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وآله) مَا يَدُلُّكُ عَلَى مَسَاوِئِ الدُّنْيَا وعُيُوبِهَا))

651 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 08-11-2023

بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:
الدنيا في خطبة له عليه السلام: ومنها يقول في رسول الله صلى الله عليه وآله
ولَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وآله) مَا يَدُلُّكُ عَلَى مَسَاوِئِ الدُّنْيَا وعُيُوبِهَا: إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِه، وزُوِيَتْ عَنْه زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِه؛ فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِه: أَأَكْرَمَ[1] اللَّه مُحَمَّداً بِذَلِكَ أَمْ أَهَانَه؟ فَإِنْ قَالَ: أَهَانَه فَقَدْ كَذَبَ - واللَّه الْعَظِيمِ – ( وَأَتَى بِالإِفْكِ الْعَظِيمِ)[2] وإِنْ قَالَ: أَكْرَمَه، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّه قَدْ أَهَانَ غَيْرَه حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَه وزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْه. فَتَأَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّه، واقْتَصَّ أَثَرَه، ووَلَجَ مَوْلِجَه، وإِلَّا فَلَا يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ فَإِنَّ اللَّه جَعَلَ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) عَلَماً لِلسَّاعَةِ، ومُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ، ومُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ،خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً، ووَرَدَ الآخِرَةَ سَلِيماً، لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِه، وأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّه، فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللَّه عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِه سَلَفاً نَتَّبِعُه، وقَائِداً نَطَأُ عَقِبَه! واللَّه لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِه حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا، ولَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ: أَلَا تَنْبِذُهَا عَنْكَ [3]؟ فَقُلْتُ: اغْرُبْ عَنِّي فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى[4]

شرح الألفاظ الغريبة:
خاصّته: اسم فاعل في معنى المصدر، أي مع خصوصيته وتفضله عند ربّه؛ زُوِيَت عنه: -بالبناء للمجهول – قُبِضَت وأُبْعِدت، ومثله بعد قليل: زَوَي الدنيا عنه: قبضها؛ عظيم زلفته منزلته العليا من القرب إلى الله؛ عَلَماً للسَّاعَةِ: - بالتحريك – العلامة أي أن بعثته دليل على قرب القيامة إذ لا نبّي بعده؛ خميصاً: أي خالي البطن، كناية عن عدم التمتع بالدنيا؛ العَقِب: - بفتح فكسر – مؤخّر القدم، ووطوء العقب مبالغة في الاتباع والسلوك على طريقه نقفوه خطوة خطوة حتى كأننا نطأ مؤخر قدمه؛ المدرعة: - بالكسر – ثوب من صوف؛ اغرب عني: اذهب وأبعد؛ السرى: - بضم ففتح – السير ليلاً وهذا المثل ((عند الصباح يحمد القوم السرى)) معناه: إذا أصبح النائمون  وقد رأوا السارين واصلين إلى مقاصدهم حمدوا سراهم وندموا على نوم أنفسهم[5].

الشرح:
أعاد ذكر جوعه هو وخاصة من أهل بيته مع عظيم زلفته ورفعة منزلته عند الله وإزوائها عنه، ولما ذكر تلك المقدمة شرع في الاستدلال بقوله: ((فلينظر ناظر...)) إلى قوله: ((أقرب الناس إليه)) وهو بقياس شرطي متصل مقدمه جمليّة وتاليه قضيّة شرطية منفصلة وتلخيصه: إذا كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاع في الدنيا مع خاصته وزوي الله عنه زخارفها مع عظيم زلفته فلا يخلو فعله بذلك، إما أن يكون إكراماً له أو إهانة، والقسم الثاني ظاهر البطلان إذ ثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم أخص خواص الله، وإذا كان أحقر ملك في الدنيا لا يقصد بأحد من خاصته إذا كان مطيعاً له الإهانة فكيف يصدر ذلك من جبار الجبابرة ومالك الدنيا والآخرة حكيم الحكماء ورحيم الرحماء في حق أحق خواصه وأشدهم طاعة له، ولأجل وضوح ذلك اقتصر على تكذيب من قال به وأكده بالقسم البار.

وأما القسم الأول وهو أنه أكرمه بذلك فمن المعلوم أن الشيء إذا كان عدمه إكراماً وكمالاً كان وجوده نقصاً وإهانة فكان وجود الدنيا في حق غيره صلى الله عليه وآله وسلم وإوائها عنه مع قرب منزلته إهانة لذلك الغير وذلك يستلزم حقارتها ويبعث العاقل على النفار عنها.
ثم عاد إلى الأمر بالتأسي به صلى الله عليه وآله وسلم في ترك الدنيا تأكيداً لما سبق بعد بيان وجوه التأسي وهو أمر في صورة الخبر مع زيادة تنبيه على أن الميل إليها يحل الهلكة فمن لم يتأسس بالنبي صلى الله عليه وآله  وسلم في أحواله في الدنيا وخالفه في الميل إلى شيء منها لم يأمن الهلكة، إذ قد عرفت أن حب الدنيا رأس كل خطيئة وهي الجاذبة عن درجات دار النعيم إلى دركات دار الجحيم.
وقوله: ((فإن الله جعل محمداً...)) إلى قوله: ((داعي ربه)).
صورة احتجاج على قوله: وإلا فلا يأمن الهلكة، وتقريره أن الله تعالى جعله علماً للساعة وأمارة على قربها ومبشراً بالجنة ومنذراً بالعقوبة واطلعه على أحوال الآخرة.

ثم خرج من الدنيا بهذه الأموال المعدودة المستلزمة للنفار عنها والبغض لها والحذر منها فلو لم يكن الركون إليها وارتكاب أضداد هذه الأموال منها مظنة الهلكة لما نفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها ويركن إليها لكنه نفر عنها فكانت مظنة الهلكة فوجب التأسي به في نفاره عنها وإلا لم يأمن غير المتأسي به الهلكة فيها.
وروي علماً للساعة – بكسر العين – وهو مجاز إطلاقاً لاسم المسبب على السبب إذ هو صلى الله عليه وآله وسلم سبب للعلم بالساعة، وكنى بوضع الحجر على الحجر عن البناء.
ثم عقب بتعظيم منة الله على الناس حين أنعم عليهم به سلفاً يتبعونه وقائداً يقتفون أثره، وأردف ذلك بذكر بعض أحواله التي تأسى به عليه السلام فيها من ترك الدنيا والإعراض عن الاستمتاع بها إلى غاية ترقيع مدرعته حتى استحيا من راقعها وقول من قال له: ألا تنبذها وتلقيها، وجوابه الحسن.

وقوله: ((فعند الصباح يحمد القوم السرى)):
مثل يضرب لمحتمل المشقة ليصل إلى الراحة فأصله أن القوم يسيرون في الليل فيحمدون عاقبة ذلك بقرب المنزل إذا أصبحوا، ومطابقة الصباح لمفارقة النفس البدن أو لإعراضها عنه واتصالها بالملأ الأعلى بسبب تلك الرياضة الكاملة وبإشراق أنوار العالم العلوي عليها التي عنده تحمد عواقب الصبر على مكاره الدنيا وترك لذاتها ومعاناة شدائدها مطابقة ظاهرة واقعة موقعها.
وروي أنه سئل عليه السلام: لم رقعت قميصك؟ فقال: يخشع لها القلب ويقتدي بها المؤمنون[6].

ومما نقل في زهده عليه السلام ما رواه أحمد في مسنده عن أبي النور الحوام – بالكوفة – قال: جاءني علي بن أبي طالب عليه السلام إلى السوق ومعه غلام له وهو خليفة فاشترى مني قميصين، وقال لغلامه: اختر أيهما شئت فأخذ أحدهما وأخذ علي الآخر، ثم لبسه ومد يده فوجد كمه فاضلة فقال: أقطع الفاضل فقطعه، ثم كفه وذهب[7]
 وروى أحمد أيضاً قال: لما أرسل عثمان إلى علي وجدوه مؤتزراً بعباءة محتجراً بعقال وهو يهنأ بعيراً له أي يمسحه بالقطران وهو الهناء [8]، والأخبار في ذلك كثيرة.
وبالله التوفيق[9].)([10]).

الهوامش:
[1] المثبت من نهج البلاغة للشيخ العطّار؛ وفي باقي النسخ: أكرم.
[2] ما بين القوسين ليس في نهج البلاغة للشيخ العطار، وفي نهج البلاغة لصبحي صالح ليس فيه: وأتَى.
[3] (عَنْكَ) ليس في نهج العطار.
[4] نهج البلاغة لصبحي صالح: 228-229/ ضمن الخطبة رقم 160، ونهج البلاغة للشيخ العطار: 302-303/ ضمن الخطبة رقم 160، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 281/ ضمن الخطبة رقم 159، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 324-315.
[5] شرح الألفاظ الغريبة: 632-633.
[6] شرح أصول الكافي 1: 230.
[7] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 235، إحقاق الحق 32: 238 باختلاف يسير.
[8] عوالي اللآلي 1: 278/110.
[9] شرح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 286-288/ شرح الخطبة رقم 159.
([10]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 175-179.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2153 Seconds