بقلم: الشيخ محسن المعلم
((الحمد لله كما هو أهله، والصلاة والسلام على هداة الخلق إلى الحق، محمد وآله الطاهرين))
وبعد:
والإنسان فيما يحياه في وجوده، ويقوم به في ذاته، ويحمله في فكره، ويمارسه في فعله، ويتعامل به مع سواه يعيش بين الجهر والخفاء، والكتمان والإعلان، فما كل شيء يشاع ويذاع، وما كل شيء يستر ويصان، فلكلٍّ مقتضٍ ومانع، وباعث ودافع.
وإن أمراً له هذا الشأن والخطر، وجلال الموقع، ودقيق المنزلة، لجدير أن تدرك أبعاده، ويحاط بخصوصياته، وتسبر منطلقاته وغاياته.
ولا يقف على تلكم الحدود، ولا يخبرها بتلكم الجهات إلاّ الخبير البصير الواقف على الحقائق.
فماذا يقول هادي الأمة وأبو الأئمة في تحليل هذا الخلق الرفيع الدقيق؟
الله المحيط بالجهر وما يخفى:
أ) «فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِعَيْنِهِ، وَنَوَاصِيكُمْ بِيَدِهِ، وَتَقَلُّبُكُمْ فِي قَبْضَتِهِ، إِن أَسْرَرْتُمْ عَلِمَهُ، وَإِن أَعْلَنْتُمْ كَتَبَهُ»([1]).
فالمولى لطيف وخبير، ومن شأن لطفه علمه بالنوايا ودقيق الخفايا، ومن لطفه ستره ذلك عن الحفظة الكرام، ورحمته بعبده فلا يفضحه ولا يؤاخذه بما أخفى ما لم يكن ذنباً لا يغفر ولم تأت عليه توبة مُكّفِرة.
ب) «عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ المُضْمِرِينَ، وَنَجْوَى المُتَخَافِتِينَ([2])، وَخَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ([3])، وَعُقَدِ([4]) عَزِيمَاتِ الْيَقِينِ، وَمَسَارِقِ إِيمَاضِ([5]) الْجُفُونِ، وَمَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَانُ الْقُلُوبِ وَغَيَابَاتُ([6]) الْغُيُوبِ»([7]).
ج) «وَمَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ...
كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلاَنِيَةٌ، وَكُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ»([8]).
د) «وَلاَ تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَسْرَارَكُم»([9]).
هـ) «أَلاَ إِنَّ اللهَ قَدْ كَشَفَ الْخَلْقَ كَشْفَةً([10])، لاَ أَنَّهُ جَهِلَ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونَ أَسْرَارِهِمْ وَمَكْنُونِ ضَماَئِرِهمْ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَهُمْ {أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}، فَيَكُونَ الثَّوَابُ جَزَاءً، وَالْعِقَابُ بَوَاءً([11])»([12]).
فخالقهم عالم بهم وبإفعالهم قبل خلقهم، ولكنه الابتلاء ومن ثّم الحجة ولله الحجة البالغة.
و) «تُشَاهِدُهُمْ فِي سَرَائِرِهِمْ، وَتَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَتَعْلَمُ مَبْلَغَ بَصَائِرِهِمْ، فَأَسْرَارُهُمْ لَكَ مَكْشُوفَةٌ»([13]).
ز) «الْبَاطِنُ لِكُلِّ خَفِيَّة، الْحَاضِرُ لِكُلِّ سَرِيرَةٍ، العَالِمُ بِمَا تُكِنُّ الصُّدُورُ، وَمَا تَخُونُ الْعُيُونُ»([14]).
ح) «قَدْ عَلِمَ السَّرائِرَ، وَخَبَرَ الضَّمائِرَ، لَهُ الْإِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ»([15]).
ط) «خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ السُّتُرَاتِ([16])، وَأَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ السَّرِيرَاتِ»([17]).
سِرِّية القدر الإلهي:
«وسئل عن القدر، فقال: طَرِيقٌ مُظْلِمٌ فَلاَ تَسْلُكُوهُ، وَبَحْرٌ عَمِيقٌ فَلاَ تَلِجُوهُ، وَسِرُّ اللهِ فَلاَ تَتَكَلَّفُوهُ»([18]).
والطريق لا يشق ظلامه إلا بنور العلم، وعمق البحر مظنة الهلكة والعطب تتقاذف براكبه أمواجه ولا نجاة إلا بركوب سفينة غير معيبة يقودها ربّان ذو بصيرة {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}، وسر الله من شؤون غيبه، ومكنون أمره، فهو الخفاء المصون لا تدركه عقول ولا تبصره عيون، إلاّ لمن أحبه مولاه واجتباه فأطلعه على سره وأئتمنه عليه، وعلم رضاه بما يبدي منه أو يخفيه ولا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى.
وصدق ولي الله في ما وصف وعرّف، وشدد وأكد من خطر القدر وغامض السر فحيث خاض بحر القدر البعيد الغور من لا نور له يهديه في اللجج ولا سفينة تنجيه من العطب يزعم واهماً أنه يلتقط اللئالي فآب خائباً مضطرب الفكر مرتعش اليدين خالي الوفاض إلا من الحيرة والتردد)([19]).
الهوامش:
([1]) خ 183 /266.
([2]) التخافت: المكالمة السرّيّة.
([3]) رجم الظنون: ما يخطر على القلب أنه وقع أو يصح أنه وقع بلا برهان.
([4]) العقد: ما يرتبط القلب بتصديقه.
([5]) المسارق: مكان أو زمان مسارقة النظر والبواعث عليها. الإيماض: اللمعان.
([6]) غيابات: أعماق.
([7]) خ 91 /134.
([8]) خ 109 /158.
([9]) خ 203 /320.
([10]) كشف الخلق: علم حالهم في جميع أطوارهم.
([11]) بواء: من باء فلان بفلان أي قُتل به.
([12]) خ 144 /200-201.
([13]) خ 227 /349.
([14]) خ 132 /189-190.
([15]) خ 86 /16.
([16]) السُّتُرات: جمع سترة ما يستتر به.
([17]) خ 108 /155.
([18]) م 287 /526.
([19]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الأخلاق من نهج البلاغة: الشيخ محسن علي المعلم، العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، ط1، ص202-205.