حنكة الإمام علي (عليه السلام) في القضاء

مقالات وبحوث

حنكة الإمام علي (عليه السلام) في القضاء

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 16-08-2018

حنكة الإمام علي (عليه السلام) في القضاء

 

الباحث: م. م. عمَّار الخزاعي

 

القضاء، أمرٌ صعبٌ مستصعب لا يلجه إلَّا من أُوتي فطنةً ثاقبة وفهمًا عاليًا، بحيث يستطيع تمييز الأمور وبيان الحقائق، وخصوصًا في القضايا الخفيَّة منها، إذ يستتر خيط الحقيقة خلف عُتمةٍ بمجموعةٍ من الحجب؛ ولذلك لم يُبدع في القضاء إلَّا النوادر وخصوصًا أولياء الله تعالى، ومن أولئك المبدعين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي حاز قصب السَّبق في رِيادة القضاء، ولم يدانيه في هذه الفضيلة خلا رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال في حقِّه: ((أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ))([1])، وقد أثبتت الوقائع هذه الرِّيادة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في أحداثٍ كثيرة على مختلف حياته الشريفة، ومن تلك الحوادث ما جرى في اليمن حين بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليها، إذ يُروى عنه (عليه السلام) قوله: ((لَمَّا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ حَفَرَ قَوْمٌ زُبْيَةً لِلْأَسَدِ، فَوَقَعَ فِيهَا الْأَسَدُ، وَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى الزُّبْيَةِ فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ وَتَعَلَّقَ بِآخَرَ، وَتَعَلَّقَ الْآخَرُ بِآخَرَ، حَتَّى صَارُوا أَرْبَعَةً، فَجَرَحَهُمُ الْأَسَدُ فِيهَا فَهَلَكُوا، وَحَمَلَ الْقَوْمُ السِّلَاحَ وَكَادَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، قَالَ فَأَتَيْتُهُمْ فَقُلْتُ: أَتَقْتُلُونَ مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنْ أَجْلِ أَرْبَعَةِ إِنَاسٍ! تَعَالَوْا أَقْضِ بَيْنَكُمْ بِقَضَاءٍ، فَإِنْ رَضِيتُمُوهُ فَهُوَ قَضَاءٌ بَيْنَكُمْ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ رَفَعْتُمْ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وسَلَّمَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ. فَجَعَلَ لِلْأَوَّلِ رُبُعَ الدِّيَةِ، وَجَعَلَ لِلثَّانِي ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَجَعَلَ لِلثَّالِثِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَجَعَلَ لِلرَّابِعِ الدِّيَةَ، وَجَعَلَ الدِّيَاتِ عَلَى مَنْ حَفَرَ الزُّبْيَةَ عَلَى قبائل الأربع، فَسَخِطَ بَعْضُهُمْ وَرَضِيَ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ) فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ: "أَنَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ"، فَقَالَ قَائِلٌ: إِنَّ عَلِيًّا قَدْ قَضَى بَيْنَنَا . فَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَضَى عَلِيٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ): "الْقَضَاءُ كَمَا قَضَى عَلِيٌّ" فِي رِوَايَةٍ: فَأَمْضَى رَسُولُ (اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ) قَضَاءَ عَلِيٍّ))([2]) .

 

ثمَّ يُعلِّق المفسِّر القرطبي (المتوفى: 671هـ) على هذه الحادثة بقوله: ((فَأَمَّا قَضِيَّةُ عَلِيٍّ فَلَا يُدْرِكُهَا الشَّادِي، وَلَا يَلْحَقُهَا بَعْدَ التَّمَرُّنِ فِي الْأَحْكَامِ إِلَّا الْعَاكِفُ الْمُتَمَادِي، وَتَحْقِيقُهَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ الْمَقْتُولِينَ خَطَأً بِالتَّدَافُعِ عَلَى الْحُفْرَةِ مِنَ الْحَاضِرِينَ عَلَيْهَا، فَلَهُمُ الدِّيَاتُ عَلَى مَنْ حَضَرَ عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ، بَيْدَ أَنَّ الْأَوَّلَ مَقْتُولٌ بِالْمُدَافَعَةِ قَاتِلُ ثَلَاثَةٍ بِالْمُجَاذَبَةِ، فَلَهُ الدِّيَةُ بِمَا قُتِلَ، وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ بِالثَّلَاثَةِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلَهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَعَلَيْهِ الثُّلُثَانِ بِالِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا بِالْمُجَاذَبَةِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ وَعَلَيْهِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ وَاحِدًا بِالْمُجَاذَبَةِ فَوَقَعَتِ الْمُحَاصَّةُ وَغَرِمَتِ الْعَوَاقِلُ هَذَا التَّقْدِيرَ بَعْدَ الْقِصَاصِ الْجَارِي فِيهِ . وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِنْبَاطِ))([3])، وأمَّا الرَّابع فقد استحقَّ كلَّ الدِّية لأنَّه لم يجذب بعده أحدًا .

 

نعم فقد أبدع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بما وهبه الله تعالى من علمٍ لدنيٍّ استحقَّه بعظيم طاعته لله تعالى، فكان نعم الوعاء الحاوي لعلم الله تعالى، وهذه الحادثة التي وردت في مصادر أهل السُّنة لهي خير دليلٍ على تقدِّمه (صلوات الله عليه) على غيره من الذين كانوا لا يفقهون من القضاء شيئًا، وكم من مرَّةٍ ينقذهم فيها (صلوات الله عليه) من مواقفٍ يحكمون فيها بغير معرفةٍ حتَّى قال قائلهم ((أعوذ من معضلةٍ ليس لها أبو حسن))([4])

الهوامش:

([1]) الجامع لأحكام القرآن تفسير القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964 م: 15/162، عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، أبو العباس، شهاب الدين، أحمد بن يوسف بن عبد الدائم المعروف بالسمين الحلبي (المتوفى: 756 هـ)، تحقيق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1417 هـ - 1996 م: 3/319 .

 

([2]) الجامع لأحكام القرآن تفسير القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964 م: 15/162 – 163 .

 

([3]) الجامع لأحكام القرآن تفسير القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964 م: 15/162 – 163 .

 

([4]) ذخائر العقبى في مناقب ذوى القربى، محب الدين أحمد بن عبد الله الطبري (المتوفى: 694هـ)، عنيت بنشره: مكتبة القدسي لصاحبها حسام الدين القدسي بباب الخلق بحارة الجداوي بدرب سعادة بالقاهرة، عن نسخة: دار الكتب المصرية، ونسخة الخزانة التيمورية: 1/82 ، الأساس في السنة وفقهها - السيرة النبوية، سعيد حوّى (المتوفى 1409 هـ)، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الثالثة، 1416 هـ - 1995 م: 4/1677 .

المقالة السابقة المقالة التالية

Execution Time: 0.3424 Seconds