بناء الإنسان وتربيته في نهج البلاغة

مقالات وبحوث

بناء الإنسان وتربيته في نهج البلاغة

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 16-04-2019

بناء الإنسان وتربيته في نهج البلاغة

 

عمَّار حسن الخزاعي:

 

الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين ...

 

المتتبع لنصوص نهج البلاغة يرى بوضوح استراتيجية أمير المؤمنين (عليه السلام) التي ينطلق منها لبناء الإنسان السوي، فهو (عليه السلام) يغوص في النفس الإنسانية إلى طبقاتها السُّفلى؛ وينتهج نهج الطبيب الحكيم، الذي يُشخص المرض بدقةٍ لا تقبل احتمالية الخطأ، ثمَّ يضع له العلاج المناسب، وهناك خصوصية في معالجات أمير المؤمنين (عليه السلام) للنفس الإنسانية تكمن في بساطتها ويسرها وسهولة تطبيقها، وهذا ما لا تجده عند غير أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو من معاجزهم العلمية والمعرفية .

واليوم نحاول في هذه العجالة أن نأخذ درسًا من أمير المؤمنين (عليه السلام) في كيفية معالجة تتبُّع عثرات النَّاس ورميهم بالعيوب، وقد تطرَّق أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ذلك في كلماتٍ كثيرة منها: ((فَكَيْفَ بِالْعَائِبِ الَّذِي عَابَ أَخَاهُ وَعَيَّرَهُ بِبَلْوَاهُ! أَمَا ذَكَرَ مَوْضِعَ سَتْرِ اللهِ عَلَيْهِ مَنْ ذُنُوبِهِ مِـمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عَابَهُ بِهِ! وَكَيْفَ يَذُمُّهُ بِذَنْب قَدْ رَكِبَ مِثْلَهُ؟! فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَكِبَ ذلِكَ الذَّنْبَ بَعَيْنِهِ فَقَدْ عَصَى اللهَ فِيَما سِوَاهُ، مِمَّا هُو أَعْظَمُ مِنْهُ، وَايْمُ اللهِ لَئِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَاهُ فِي الْكَبِيرِ، وَعَصَاهُ فِي الصَّغِيرِ، لجُرْأتُهُ عَلَى عَيْبِ النَّاسِ أَكْبَرُ!

يَا عَبْدَ اللهِ، لاَ تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَد بِذَنْبِهِ، فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، وَلاَ تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِيرَ مَعْصِيَة، فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ; فَلْيَكْفُفْ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عَيْبَ غَيْرِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَيْبِ نَفْسِهِ، وَلْيَكُنِ الشُّكْرُ شَاغِلاً لَهُ عَلَى مُعَافَاتِهِ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ غَيْرُهُ))([1]) .

 

نسج أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه النص كلمات بنسيج لا يرقى له كلام ما خلا كلام النبي (صلَّى الله عليه وآله)، فهو يذكِّر ويُحذِّر من يُعيب النَّاس بستر الله عليه في عيوبه، فقد يكون العائب له ذنبًا أعظم من ذنب المعيب ومع ذلك فإنَّ الله تعالى قد ستره ولم يفضحه بين الناس، ولو قال قائل إنِّي لم ارتكب ذنبًا كذنب هذا الشخص ولذلك يحقُّ لي التشهير به، وهنا يقول له الإمام بأنَّك إذا لم ترتكب مثل هذا الذنب بعينه فقد يمكن أن تكون ارتكبت ذنبًا آخر لا يقلُّ شناعةً عن هذا الذنب، ولو ادَّعى العائب بأنَّ ذنبي صغير أمام ذنبه، فيجيبه الإمام بأنَّ جرأتك على عيب النَّاس وفضحهم بذنوبهم أعظم من ذنوبهم نفسها؛ لأنَّك تفضح مؤمنًا من الممكن أن يتوب فيغفر له الله تعالى، ولكن لو شهَّرت به فحتمًا أنَّك ستمنعه من التوبة بالفضيحة التي تكون فيما بعد دافعًا له لارتكاب المحارم، ثمَّ يوصي أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس بعدم عيب غيرهم، إذ من الممكن أن يرى العائب عظم ذنب غيره بالنسبة لذنبه، ولكن هو لا يعلم بأنَّ من الممكن أن يكون الله تعالى قد غفر لمن يراه بالذنب العظيم ولم يغفر ذنبه الصغير، وعلى ذلك يكون الرأي السليم والبناء القويم لشخصية الإنسان السوي أنَّه إذا اطَّلع على عيب غيره أن ينشغل بشكر الله تعالى الذي عصمه من هكذا ذنب أو ستره عندما اقترف مثل هذا الذنب .

وهكذا يُقدِّم لنا أمير المؤمنين (عليه السلام) درسًا أخلاقيًا يُعالج ما تتطبَّع عند بعض النَّاس الذين يتتبعون عثرات غيرهم من أجل التشهير بهم وفضحهم، وقد لاحظنا أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يُقدِّم النصيحة فحسب؛ بل حاجج النفس الإنسانية بكلِّ ما يمكن أن تحتجُّ به على صحة فعلها في عيب غيرها، فتتبع تلك الاحتمالات وأسقطها الواحدة تلو الأخرى، وبذلك لم يعد لها إلَّا التسليم والإذعان .

وهناك كلمات أُخرى لأمير المؤمنين (عليه السلام) يكشف بها عن حقيقة من يعيب غيره فيقول: ((أَكْبَرُ الْعَيْبِ أَنْ تَعِيبَ مَا فِيكَ مِثْلُه ((([2])، وقوله (عليه السلام): ((مَنْ نَظَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ فَأَنْكَرَهَا ثُمَّ رَضِيَهَا لِنَفْسِهِ فذَاك الأحْمَقُ بِعَيْنِهِ)) ([3]) .

فالذي يُعيب غيره يرتكب عيبًا أكبر ممَّا عاب به، وهو أحمق بامتياز وذلك لأنَّه أنكر العيب في غيره ورضاه في نفسه . أعاذنا الله تعالى وإيَّاكم من تتبع عيوب الآخرين، ونسأل الله تعالى أن يُشغلنا بعيوبنا عن عيوب غيرنا .

 

الهوامش:

([1]) نهج البلاغة (تحقيق صبحي الصالح): 197 .

 

([2]) نهج البلاغة (تحقيق صبحي الصالح): 536 .

 

([3]) المصدر نفسه .

 

المقالة السابقة المقالة التالية

Execution Time: 0.2734 Seconds