توظيف المثل في نهج البلاغة الخطبة الشقشقية أنموذجا.

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

توظيف المثل في نهج البلاغة الخطبة الشقشقية أنموذجا.

7K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 12-04-2020

نبأ سعيد عبد الموسوي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين أبي القاسم محمد وعلى آله المنتجبين، وبعد
 لقد كان كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا يزال مدار الدراسات اللغوية والأدبية على المستويات كافة، فقد كان الخطاب اللغوي ذا مدلولات وإشارات لا تنتهي، وذا إضاءات بلاغية تقاصر عن الإرتقاء إليها ذا الإفهام من الآخرين، فلا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي غرائبه؛ وكان للأمثال حظ وافر في كلامه (عليه السلام) لذا أخترت أن أبين أثر المثل في أحدى خطبه وهي الخطبة الشقشقية.
      ومثلما هو معروف فالمثل حكاية عن صورة بكلمات معدودة ذات مفردات سهلة التفسير يفهم معناه كل من يسمعها، إذ هو ((جملة من القول مقتطفة من كلام أو مراسلة بذاتها، تُنقل ممن وردت فيه إلى مشابهة دون تغيير))([1]).
      وتُعد الأمثال مصدراً مهمًا في استنباط القاعدة النحوية، فضلاً عن ذلك أنها تحتوي على مزية: أيجاز اللفظ، إصابة المعنى، حسن التشبية، وجودة الكتابة([2]).
   ومما جاء منها في الخطبة قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا)؛([3]) لقد زج الامام علي (عليه السلام) هذا المثل وهو (لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا) في هذه الخطبة، والغاية منه العبرة إذ شبه الخلافة بضرعي الناقة المتشطرين، أي أن من ولي الخلافة لا ينال الأمر إلا تاما ولا يجوز له أن يترك منها لغيره سهمًا، فالتشطير والاقتسام كان أحدهما ترك شيئًا منه للآخر، وأطلق على كل شطر اسم الضرع([4]).
        والشطر في المعنى المعجمي نصف الشيء، والجمع أشطر، وللناقة شطران قادمان وآخران فكل خلفين شطر([5]).
  وقوله: (أَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا)([6]) يُقَال ألقيت حبله على غاربه إِذا تركته يذهب حَيْثُ يُرِيد وَأَصله أَنهم إِذا أَرَادوا إرْسَال النَّاقة فِي الرَّعْي ألقوا جديلها على غاربها لِئَلَّا تبصره فيتنغص عَلَيْهَا مَا ترعاه، وَالْغَارِب مقدم السنام ثمَّ صَار غارب كل شَيْء أَعْلَاهُ([7])، أي: أعلى السَّنام، وهذا كناية عن الطلاق، أي اذْهَبي حيثُ شئت، وأصله أن الناقة إذا رَعَتْ وعليها الخِطامُ ألقى على غاربها، لأنها إذا رأت الخِطامَ لم يَهْنئها شيءٌ([8])، وهو (استعارة وصف من أوصاف الناقة للخلافة أو للأمّة كنّى بها عن تركه لها وإهماله لأمرها ثانيا كإهماله أوّلا ، ولمّا استعار لها لفظ الغارب جعل لها حبلا تلقى عليه وهو من ترشيح الاستعارة)([9]).
   ومنه قوله (عليه السلام ): (وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ)([10]) (هو أهون عليّ من عفطة عنز)([11])، (يُقَال: عَفَطَتْ العَنْزُ تَعْفْطُ عطفا، إذا حَبَقَتْ)([12])، (والعرب تقول "هو أهون علي من عفطة عنز")([13])، وفي هذا يبين أمير المؤمنين (عليه السلام) ما تمثلة الدنيا بأكملها له، (لأن الدنيا بكاملها لا تعدل المخاط الذي تنثره العنز من أنفها عند العطاس)([14])، وأنه لو كان الناصر موجودا فيما مضى لما كانت الأمور أن تصل لما هي عليه الآن، (يقول عليه السلام: لولا وجود من ينصرني - لا كما كانت الحال عليها أولا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، فإني لم أكن حينئذ واجدا للناصر مع كوني مكلفا ألا أمكن الظالم من ظلمه - لتركت الخلافة ، ولرفضتها الآن كما رفضتها قبل، ولوجدتم هذه الدنيا عندي أهون من عطسة عنز، وهذا إشارة إلى ما يقوله أصحابنا من وجوب النهى عن المنكر عند التمكن)([15]).
ويظهر لنا مما سبق دقة توظيف أمير المؤمنين (عليه السلام) للأمثال في كلامه، وطريقة دمجها في ثنايا خطابه لتكون جزءا لا ينفصل عن سابقه ولاحقه، وهذا قمة البراعة في وجوه البلاغة.
الهوامش:
(1)المعجم الوسيط : 2/888.
([2]) ينظر : الأمثال (ابن سلام): 34 .
([3]) نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 48.
([4]) ينظر: شرح نهج البلاغة (محمد عبدة) : 1/33 .
 ([5])ينظر : المحكم والمحيط الأعظم: 8/12 .
 ([6])نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 50.
[7])) جمهرة الامثال: 1/ 382.
[8])) ينظر: مجمع الأمثال: 1/ 196.
([9]) شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: 1/ 268.
([10]) نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 50.
[11])) الأمثال المولدة: 143، فصل المقال في شرح كتاب الأمثال: 514، مجمع الأمثال: 2/ 406.
[12])) مجمع الأمثال: 2/ 406.
[13])) فصل المقال في شرح كتاب الأمثال: 514
([14]) في ظلال نهج البلاغة: 1/ 98.
([15]) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 1/ 203.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3681 Seconds