الإمام الرِّضا (عليه السلام) بين ولاية العهد ونية الغدر

مقالات وبحوث

الإمام الرِّضا (عليه السلام) بين ولاية العهد ونية الغدر

6K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 30-04-2020

عمَّار حسن الخزاعي
في أواخر الحكم الأموي اضطربت الولايات الإسلاميَّة وعمَّ السَّخط ضدَّ الأمويين في عموم البلاد، فثار بني العبَّاس على بني أميَّة مستغلين ضعف حكومتهم، ومستثمرين نقمة النَّاس عليهم، وقد كان شعارهم في ذلك حماية الدِّين وطلب الثأر لشهداء أهل البيت (عليهم السلام) ناظرين في ذلك إلى حبِّ النَّاس لأهل البيت (عليهم السلام) بعدما عرفوا أحقِّيتهم وبطلان بني أميَّة، فعمَّت رغبة قويَّة لدى النَّاس في التمسُّك بأهل البيت (عليهم السلام) والدعوة إليهم، وهكذا أخذ بني العبَّاس الشرعيَّة في الانقضاض على بني أميَّة، وصار العباسيون باسم العلويين حماةً للدِّين ثمَّ تسلقوا إلى السلطان على أكتافهم([1])، وما إن تزعموا وسيطروا على مقاليد الحكم حتَّى تنكَّروا لأهل البيت (عليهم السلام) فقتَّلوهم شرَّ تقتيلٍ ونكَّلوا بشيعتهم شرَّ تنكيلٍ، وهكذا مضوا بسيرة ملكهم يقتلون كلَّ من يعارضهم أو يحاول أن يحاسبهم، فكانت سيرتهم لا تختلف عن سيرة بني أميَّة إن لم تكن أسوأ منها، وكان زعيمهم الأوَّل أبو العبَّاس السَّفاح ثمَّ تلاه أخاه المنصور الدوانيقي وبعدها مجموعة من الحكَّام من صلب الأخير إلى أن وصلت إلى المأمون العبَّاسي بعد قتل أخيه الأمين، وفي هذه المرحلة كثرت الثورات ضدَّ بني العبَّاس بعدما اتَّضحت حقيقتهم وتنكُّرهم عن الأهداف التي كانت شعارهم في أوَّل الأمر، فكان لا بدَّ من العمل على اطفاء تلك الثورات وإخمادها بطريق آخرٍ غير السلاح بعدما صارت سطوتها شديدة على الحكومة العبَّاسيَّة، وهنا جاء المأمون بفكرة ولاية العهد، وقبلها فكرة التنازل عن السلطة إلى أهل البيت (عليهم السلام) بوصفهم الأحقَّ بهذا الأمر من غيرهم، ففكَّر المأمون العباسي بدهاء سياسيٍّ ومكرٍ محبوك في سبيلٍ يبسط به نفوذ دولته ويستندُ عليه في إحكام سُلطانه، وكانت خُطَّته تدور حول إعادة فكرة المطالبة بحقِّ أهل البيت (عليهم السلام)، الأساس الذي قامت عليه ثورة بني العبَّاس، من أجل امتصاص غضب النَّاس عليهم، وتسكين نار الثورة التي كان مدادها رجالات من أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم، وكانت تلك الثورات تهدف إلى إرجاع الحكم إلى أهل البيت (عليهم السلام) بوصفهم الأحقَّ بهذا الأمر، ولذلك قرَّر المأمون أن يأتي بزعيم أهل البيت (عليهم السلام) وهو الإمام الرِّضا (عليه السلام) في ذلك الوقت، فأرسل إليه في المدينة وجاء به غصبًا إلى خراسان، من أجل أن يعرض عليه الحكم في الدَّولة، وبذلك ستهدأ الأمور وتخمد الثورات؛ لتحقُّق الهدف وهو زعامة أهل البيت (عليهم السلام) للسلطة، ولكنَّ هذا الأمر يُضمر حقيقة أُخرى وهي أنَّ المأمون لم يكن جادًّا بذلك بقدر ما كان راغبًا في الحفاظ على دولته، عبر تشويه صورة أهل البيت (عليهم السلام) القدوة السامية للفرد المسلم، وذلك عبر عرض الخلافة فإذا قبلها الإمام أشاع بأنَّ أهل البيت طلَّاب دنيا، يسعون إلى الحكم ولم يكونوا بهذا الزهد الظاهر للنَّاس، وإذا ما حدث ذلك نشبت الفرقة بين مواليهم فتضعف شوكتهم وتتشتَّت كلمتهم ممَّا يسهل السيطرة عليهم بعد ذلك، وهذا كلُّه نجده في رواية أبي الصلت (رضوان الله عليه) الذي نقل بها مجمل الأحداث التي دارت بين الإمام الرضا (عليه السلام) والمأمون العبَّاسي، والرواية طويلة([2]) سنقطِّعها بحسب المحاور التي اشتملت عليها:

أولًا: المأمون يعرض الحكومة على الإمام الرضا (عليه السلام):

عرض المأمون سلطان الدَّولة على الإمام الرِّضا (عليه السلام) قائلًا له: ((يا بن رسول الله، قد عرفت علمك وفضلك وزهدك وورعك وعبادتك، وأراك أحقَّ بالخلافة منِّي، فقال الرضا (عليه السلام): بالعبودية لله (عزَّ وجلَّ) أفتخر، وبالزُّهد في الدنيا أرجو النجاة من شرِّ الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله (عزَّ وجلَّ)، فقال له المأمون: فإنِّي قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك)) .

ثانيًا/ إبطال دعوة المأمون بالحجَّة والبرهان:

لمَّا عرض المأمون الحكم على الإمام الرضا (عليه السلام) حاججه الإمام بقوله: ((إن كانت هذه الخلافة لك والله جعلها لك فلا يجوز لك أن تخلع لباسًا ألبسك الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك، فقال له المأمون يا بن رسول الله فلا بدَّ لك من قبول هذا الأمر، فقال: لست أفعل ذلك طائعًا أبدًا فما زال يجهد به أيَّامًا حتى يئس من قبوله)) . وهنا نرى بأنَّ الإمام (عليه السلام) أراد أن يؤسِّس لأمرٍ، وهو الأحقيَّة بالخلافة، وأراد من المأمون أن يعترف بذلك الحق، ولو اعترف لكان في مورد الاتِّهام هو ومن سبقه من حكَّام بني العبَّاس؛ لأنَّهم سيكونون غاصبون مفترون على أمر الله تعالى؛ ولكنَّ المأمون رفض هذا الاعتراف ناقلًا سياق الحديث إلى جبر الإمام (عليه السلام) بقبول ما أراده، ولو كان محقًّا بما ادَّعى لاعترف بالحقِّ .

ثالثًا/ المناورة بولاية العهد

لمَّا فشل المأمون في إقناع الإمام الرِّضا (عليه السلام) بقبول خلافة الحكم ناور بولاية العهد، فعرض على الإمام (عليه السلام) ولاية العهد التي يكون بها الإمام خليفة بعدما يموت المأمون، وذلك بقوله: ((فإن لم تقبل الخلافة ولم تحب مبايعتي لك فكن ولي عهدي لتكون لك الخلافة بعدي)) .

رابعًا/ ولاية العهد كانت ولاء خيانة

بعدما عرض المأمون على الإمام (عليه السلام) ولاية العهد كشف الإمام (عليه السلام) للمأمون بأنَّ هذا الأمر لن يتم، وذلك للخيانة التي ستؤدِّي بالإمام إلى السمِّ مظلومًا، وذلك بقوله: ((والله لقد حدثني أبي، عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنِّي أخرج من الدنيا قبلك مسمومًا مقتولًا بالسمِّ مظلومًا تبكي عليَّ ملائكة السماء وملائكة الأرض، وأدفن في أرض غربة إلى جنب هارون الرشيد فبكى المأمون، ثم قال له: يا بن رسول الله ومن الذي يقتلك أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حي؟ فقال الرضا (عليه السلام): أما إنِّي لو أشاء أن أقول لقلت من يقتلني)) .

خامسًا/ التصريح بالنَّوايا الخفيَّة

بعدما رفض الإمام (عليه السلام) ولاية العهد صرَّح المأمون بغايته الدَّفينة فقال: ((يا بن رسول الله إنَّما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك ودفع هذا الأمر عنك، ليقول الناس إنَّك زاهد في الدنيا، فقال الرضا (عليه السلام): والله ما كذبت منذ خلقني ربِّي (عز وجل)، وما زهدت في الدنيا للدنيا وأنِّي لأعلم ما تريد، فقال المأمون وما أريد؟)) .

سادسًا/ كشف خطَّة المأمون

وهنا يكشف الإمام (عليه السلام) خطَّة المأمون فيقول له بعدما سأله المأمون في المحور السابق عن الغرض من عرض الولاية عليه فيجيبه الإمام (عليه السلام) بقوله: ((الأمان على الصدق قال: لك الأمان، قال: تريد بذلك أن يقول الناس: إنَّ علي بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعًا في الخلافة؟ فغضب المأمون: ثمَّ قال: إنَّك تتلقاني أبدًا بما أكرهه وأمنت سطوتي فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلا ضربت عنقك، فقال الرضا (عليه السلام): قد نهاني الله (عزَّ وجل) أن ألقي بيدي إلى التهلكة فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك)) . وهنا كشف الإمام (عليه السلام) غرض المأمون من خطَّته في ولاية العهد، وهي تشويه الصورة الناصعة لأئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) ثمَّ تفريق أنصارهم ومحبيهم عنهم فيما لو استطاع ذلك؛ لأنَّ أئمَّتهم سيكونون في موضع الاتِّهام، وبذلك تضعف شوكتهم ويتفرَّق جمعهم .

سابعًا/ الإمام الرضا (عليه السلام) يُبطل خُطَّة المأمون:

وعندما أصبح الأمر واقعًا وصار التهديد بالسيف إن لم تتم ولاية العهد اشترط الإمام (عليه السلام) شرطًا عبَّر عنه بقوله بعدما هدَّده المأمون بالموت إن لم يقبل: ((وأنا أقبل ذلك على أنِّي لا أولي أحدًا ولا أعزل أحدًا ولا أنقض رسمًا ولا سنَّة، وأكون في الأمر من بعيد مشيرًا فرضي منه بذلك وجعله ولي عهده على كراهة منه (عليه السلام) بذلك)) . وبهذا الشرط جرَّد الإمام (عليه السلام) نفسه من الإمرة والزهو بالسُّلطان، والنعيم بالملك وبالأمر والنهي، وجعل نفسه بعيدًا عن مصدر القرار، وبذلك أثبت للنَّاس ورع أهل البيت (عليهم السلام) وزهدهم بزبرج الدُّنيا وزينتها، وكشف للنَّاس غرض المأمون ودسيسته، التي كان يبغي من ورائها تشويه الصورة السامية لأئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) . وكان الإمام (عليه السلام) يسعى بجهدٍ لإبطال خطَّة المأمون فكان يكشف في كلِّ فرصةٍ عن أنَّه مجبور على هذا الأمر، وفي أكثر من حادثة، وممَّا ورد في ذلك ما جاء عن محمد بن عرفة أنَّه سأل الإمام بقوله: ((قلت للرضا عليه السلام يا بن رسول الله ما حملك على الدخول في ولاية العهد ؟ فقال: ما حمل جدي أمير المؤمنين (عليه السلام) على الدخول في الشورى))([3])، وفي روايةٍ أُخرى أنَّ أبا الصَّلت ينقل للإمام الرضا (عليه السلام) أخبار بعض ضعاف الإيمان ممَّن انطلت عليهم خدعة المأمون فيقول: ((دخلت على علي موسى بن الرضا (عليه السلام) فقلت له: يا بن رسول الله إنَّ الناس يقولون: إنَّك قبلت ولاية العهد مع اظهارك الزهد في الدُّنيا، فقال عليه السلام): قد علم الله كراهتي لذلك، فلمَّا خُيِّرت بين قبول ذلك وبين القتل، اخترت القبول على القتل، ويحهم أما علموا أنَّ يوسف (عليه السلام) كان نبيًا رسولًا فلمَّا دفعته الضرورة إلى تولِّي خزائن العزيز قال له: اجعلني على خزائن الأرض إنِّي حفيظ عليم، ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على اكراه وإجبار بعد الاشراف على الهلاك، على أنِّي ما دخلت في هذا الأمر إلَّا دخول خارج منه؛ فإلى الله المشتكى وهو المستعان))([4]) . وهنا يؤكِّد الإمام (عليه السلام) على الإجبار على الولاية، وكذلك عدم الدُّخول فيها بشرطه السابق فكأنَّه داخل خارج، ومن هنا لا مجال للشكِّ في إخلاصه للدِّين والعقيدة .

وممَّا تقدَّم تبطل خطَّة المأمون التي كان يبغي بها إلى تشويه الصورة الناصعة لأهل البيت (عليهم السلام) بأن يُخرجهم على شكل طُلَّاب دُنيا وسلطان . وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.
الهوامش:
([1]) الشيعة والحاكمون، محمد جواد مغنية: 133 .
([2]) الأمالي، الشيخ الصدوق (ت: 381 هـ): 125 – 127 ، وسائل الشيعة، الحر العاملي (ت: 1104 هـ): 17/203 – 204 .
([3]) عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، الشيخ الصدوق (ت: 381 هـ): 2/152 .
([4]) علل الشرائع، الشيخ الصدوق (ت: 381 هـ): 1/239 .

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2552 Seconds