معركة بدر، نهضة وانتصار

مقالات وبحوث

معركة بدر، نهضة وانتصار

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 02-05-2020

خُطَى الخُزَاعي
في خط صعود باتجاه بناء دولة الإسلام وتأسيس قواعد حضارتها، كانت معركة بدر الكبرى فاتحة مهمة في عملية البناء تلك، إذ مثلت انعطافة بثقل واضح جدًا في عملية التحول والانتقالة من كيان إسلامي مستضعف فقير الإمكانات إلى دولة ذات أساس رصين بقوة متنامية وطموح كان من شأنه -بعد بضع سنين- بلوغ فتح مكة، والإعلان عن انزواء عهد الوثن.
والمعركة تنسب إلى أرض بدر ما بين مكة والمدينة، ((وبدر في الأصل اسم رجل من قبيلة جهينة حفر بئرًا في ذلك الموضع فسميت باسمه، وسميت الأرض بأرض بدر أيضًا))([1])، والسبب في وقوعها أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد تهيّأ للتعرض إلى قافلة تجارية لقريش كانت تتجه صوب الشام بقيادة أبي سفيان بن حرب، محمَّلةً بجلِّ أموال أهل مكة، ومع أنَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدرك القافلة؛ إذ استطاع أبو سفيان أن يفرَّ من ملاحقة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأتباعه ويعود بتلك القافلة إلى مكة من طريق غير مطروقة بعد أن تسرّب إليه عزم النبي، إلّا أنَّ  قرار الحرب بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقريش قد ارتسم على وجه الحدث؛ إذ قرأت قريش محاولة التعرض تلك جرأة على مصالحها ووخزًا في هيبتها، فعظم ذلك في نفوس  كبرائها؛ فكان خيار الحرب هو الأنسب اثباتًا لوجودها وردًا لاعتبارها؛ فأعدت للقتال عدةً وعديدًا، وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإمكانيات فقيرة جدًا قياسًا بإمكانيات الجهة المقابلة إذ بلغ عديدهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا([2]) بسبعين بعيرًا، وكان الثلاثة والأربعة والاثنان يتعاقبون على البعير الواحد([3])، ونزل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وادي بدر في شهر رمضان يوم تسعة عشر أو سبعة عشر منه على رأس تسعة عشر شهرًا من الهجرة النبوية([4])، بعد أن خيَّر أصحابه بين الصدام مع قريش أو ملاحقة القافلة، فانقسموا على رأيين لينحسم الأمر في النهاية بقرار الحرب من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
خاض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تلك المعركة بروحية عالية سدَّدها تأييد إلهي، إذ أنزل الله تعالى في ذلك الحدث سورة الأنفال المباركة التي وعدت المسلمين بإحدى الطائفتين: إمَّا غنيمة القافلة أو النصر على كفار قريش في الميدان، ثم بشَّرت المسلمين ببشرى الإمداد الإلهي بجيش من الملائكة، يثبّتون المؤمنين بتقليل الكفار بأعينهم كيلا يفشلوا، ويلقون الرعب في قلوب المشركين بتكثير المسلمين في أعينهم كي تثبط عزائمهم، ضاربين في أعناق أهل الكفر والضلال.
ولا يمر ذكر معركة بدر من دون ذكر رأس كُماتها وصانع نصرها بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) واجهة التأييد الإلهي الأخرى، إذ آثره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) برايته في يوم بدر واردًا ذلك عن ابن عباس بقوله: ((دفع رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) الراية يوم بدر إلى علي وهو ابن عشرين سنة))([5]) فخاض عبابها غير آبه بعديد قريش وغطرستها، فكان (صلوات الله عليه) في خط هجوم المعركة الأول بعد أن وقَّع دخولها بقتل الوليد بن عتبة بن ربيعة، ولثقل وطأته على جبهة الكفر واستماتته في نصرة العقيدة سماه المشركون في يوم بدر بـ ((الموت الأحمر))([6]).
آلت معركة بدر إلى نصر ثمين لصالح الإسلام، واتفق المؤرخون بأن أغلب من قُتل من المشركين في هذه المعركة كان بسيف أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) فقيل: أنَّ مجموع من قتل من المشركين في هذه المعركة وشرك في قتله اثنان وعشرون رجلًا من أصل تسعة وأربعين([7])، وعدَّهم الشيخ المفيد في الإرشاد خمسة وثلاثون رجلًا سوى من اختلف فيه أو شرك أمير المؤمنين (عليه السلام) فيه غيره([8])، وأيضًا أنَّ ((عامه من قتل من الكفار، قتلهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلًا))([9])، وأكثر الرواة على أنَّ خسارة قريش في معركة بدر سبعون قتيلًا وسبعون أسيرًا([10]). وقد تجذّر هذا الإنجاز العلوي غائرًا في ذاكرة القوم متوجعين له في كل حين، للحدِّ الذي صاروا يطلبون ثأر قتلى بدر وغيرها من أمير المؤمنين وذريته (صلوات الله عليهم) حتى بعد تجلببهم بزي الإسلام في الظاهر، ولذلك شواهد وقف عندها التاريخ مدونًا، منها أنَّ أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في أحد مواقف صفين كان يحمّس جنده لملاقاة معاوية بن أبي سفيان -خَلف قتلى بدر- قائلًا: ((ألا أنَّها إحن بدرية، وضغاين أحدية، وأحقاد جاهلية))([11])، وموقف آخر دُوِّنَ على لسان الملعون يزيد ابن معاوية حين تمثل بأبيات ابن الزبعرى بعد قتله سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحمل الرأس الشريف إليه متبجحًا وهو على منصة حكومة الإسلام بأخذ ثأر سلفه الكافر قائلًا([12]):

ليت أشياخي ببدر شهدوا    ***    وقعة الخزرج من وَقْعِ الأَسَلْ

قد قَتَلْنا القِرنَ من ساداتهم   ***    وعَـــــــدَلْنا مَيلَ بــــــــدرٍ فاعتــــــــــَدَلْ
وهكذا انتهت معركة بدر على خلاف منطق الميدان والموازين العسكرية، وقد صار لتلك القلة المشردة المستضعفة بعين قريش شأن، إذ ما كانت تحتمل أنَّها ستخرج من تلك المعركة بسحق كامل هيبتها وإراقة كل ماء وجهها، ولم يَدر في خَلَدها لحظةً أنَّ كبرائها المتجبرين سيتهاوون على الأرض صرعى بسيوف موالي الأمس، ومن جانب آخر ساهمت نتيجة المعركة برفع معنويات المسلمين واعتدادهم بما يملكون، وكشفت عن قيادة فذة وحنكة في إدارة الأمور لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما وأضاءت المعركة على جانب الغيب وتدخل السماء؛ فكان ميدان المعركة خير مصدِّق لما أخبر به النبي (صلى الله عليه وآله) سلفًا من بشرى الظفر وإمداد المعركة بعوامل نصرها، فساهمت في تمتين العقيدة والإيمان بأحقية جانب الإسلام.
وبالجملة قد أطل المسلمون من بوابة بدر على مرحلة بدأت بها كفة الإسلام تعلو برجحان متواصل على كفة الشرك، حتى أفول مجده وخمول ذكره.       
فرحم الله شهداء بدر وجزى عنا صانعي نصرها خير الجزاء، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
الهوامش:
[1])) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي: 5/370.
[2])) ينظر: المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، ابن الجوزي (ت: 597): 3/127.
[3])) المغازي، الواقدي (ت: 207هـ): 1/26.
[4])) أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين (ت: 1371): 1/246.
[5])) المغازي، الواقدي (ت: 207هـ): 1/26.
[6])) الاستيعاب، ابن عبد البر (ت: 463): 3/1097.
[7])) المغازي، الواقدي (ت: 207): 1/152.
[8])) الإرشاد، الشيخ المفيد (ت: 413): 1/72.
[9])) قصص الأنبياء، قطب الدين الراوندي (ت: 573): 338.
[10])) المغازي، الواقدي: 1/144، تفسير جوامع الجامع، الشيخ الطبرسي (ت: 548): 1/326، عمدة القاري، العيني (ت: 855): 19/98.
[11])) مناقب آل أبي طالب: 2/362.
[12])) ينظر: مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، سبط ابن الجوزي (ت: 654هـ): 8/159.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2792 Seconds