بقلم: الشيخ مهدي المالكي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام):
«قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِه»([1]).
يمكن القول إنّ الهمة تنقسم على قسمين:
الهمّة الوهبية: وهي رزق معنوي يهبه الله تعالى لكل الناس على حدٍ سواء، وبغض النظر عن وجهتها: الدنيوية المحضة أو الدنيوية الطريقية نحو الآخرة فهي مسؤولية العبد واختياره، وهي من مظاهر رحمة الله – سبحانه - الواسعة بعباده، ولولاها لما تحرّك حجر على وجه الأرض من مكانه، ولما كانت هناك حياة، فكل حركةٍ وكلّ نشاطٍ وفعالية بشرية الهدف منها إدامة الحياة يكون مبدؤها والباعث نحوها هو هذه الهمّة، وما نراه من مظاهر انعدام الهمّة وغيابها من نفوس كثير من أبناء الجنس البشري ليس مؤشراً على خطأ هذا الكلام؛ بل إنّه مظهرٌ من مظاهر كفر النعمة الإلهية. هذا الخُلق وهذا السلوك السائد والغالب على النفوس البشرية التي هُزمت أمام دوافعها الوهمية يعضدها ويشد من أزرها الشيطان وجنوده، فأهملوا رعايتها وتنميتها ولم يحسنوا استثمارها وتوجيهها الوجهة الصحيحة التي أراد الله – تعالى – التوجّه نحوها، والتي فيها خيرهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة، فضيّعوا هذه النعمة و أضاعوها من نفوسهم بسوء اختيارهم.
الهمّة الكسبية: وهي الهمّة التي يوجدها نظام الاعتقاد الشخصي للإنسان والمؤلف من أفكاره واعتقاداته وقيمه وعاداته. وكلمّا كان هذا النظام أكثر قوة ً، ومتانة، وأشد ارتباطاً بالمنبع الصافي والمعين العذب للافكار والاعتقادات والقيم والعادات الأصيلة متمثّلاً بالأنبياء وأوصيائهم (عليهم السلام) كانت الهمّة أعلى والحماسة أشد، وعلى هذا فالهمّة الكسبية قابلة للإنماء والزيادة والرفعة كبقية المواهب والقوى والدوافع الداخلية في النفس البشرية.
والعلاقة بين علو الهمّة الكسبية وبين تطور ومتانة نظام الاعتقاد الشخصي علاقة تبادلية، فكلّ منهما يؤثّر في الآخر سلباً أو إيجاباً، وكلـّما كانت الهمّة أعلى والحماسة أكبر كان نظام الاعتقاد الشخصي أكثر إيجابية، وكلما كان هذا النظام أكثر إيجابية كانت الهمّة أعلى، والعكس صحيح.
يقول (دينيس ويتلي) مؤلف كتاب (سيكولوجية الدوافع):
(تتحكّم قوةّ رغباتنا في دوافعنا، وبالتالي في تصرفاتنا).
فالهمّة العالية والحماسة الكبيرة والرغبة الشديدة في التميّز الإنساني ومحاولة إبرازه إلى الخارج في شكل سلوكياتٍ إيجابية وإنسانية هو الدافع والمحرّك الذي يلهب حماسة الإنسان ويقوّي عزمه وإرادته وحميّته نحو سلوك أفعال خارجية إيجابية على امتداد مسيرة حياته البشرية. وبذلك يحافظ على هذه الصورة الإنسانية التي تُشعره بالقرب من ربّه ومن ذاته الحقيقية، وكلما كانت الهمّة أعلى قويت هذه الدوافع والمحرّكات، وعظُمت طاقتها، وصلُبت واشتدت الأرضية الفكرية والعقدية والقيمية المنتجة للأفعال والسلوكيات الإيجابية.
قصّة ومغزى
ذهب شاب إلى أحد حكماء الصين ليتعلّم منه، وسأله:
هل تستطيع أن تذكر لي سرّ النجاح؟
فرد عليه الحكيم الصيني بهدوء قائلاً: سر النجاح هو الدوافع.
فسأله الشاب: ومن أين تأتي هذه الدوافع؟
فرد عليه الحكيم: من رغباتك المشتعلة.
وباستغراب، سأله الشاب: وكيف تكون عندنا رغبات مشتعلة؟
وهنا استأذن الحكيم الصيني لعدّة دقائق، وعاد ومعه وعاء كبير مليء بالماء، وسأل الشاب: هل أنت متأكد من أنّك تريد معرفة مصدر الرغبات المشتعلة؟
فأجابه بلهفة: طبعاً.
فطلب الحكيم منه أن يقترب من وعاء الماء وينظر فيه، فنظر الشاب عن قرب، وفجأةً ضغط الحكيم بكلتا يديه على رأس الشاب ووضعه داخل وعاء الماء، ومرّت عدّة ثواني، ولم يتحرّك الشاب، ثم بدأ ببطء محاولة إخراج رأسه من الماء، ولمّا بدء يشعر بالاختناق بدأ يقاوم الحكيم الصيني وسأله بغضب: ما هذا الذي فعلته؟
فردّ وهو ما زال محتفظاً بهدوئه قائلاً: ما الذي تعلمته من التجربة؟
قال الشاب: لم أتعلم شيئاً!!
فنظر إليه الحكيم قائلاً: لا يا بني، لقد تعلّمت كثيراً، ففي خلال الثواني الأولى أردت أن تخلص نفسك من الماء ولكن دوافعك لم تكن كافية لفعل ذلك، وبعد ذلك كنت راغباً في تخليص نفسك فبدأت بالتحرّك والمقاومة ولكن ببطء، إذ إن دوافعك لم تكن قد وصلت بعد لأعلى درجاتها، وأخيراً شارفت على الاختناق أصبح عندك الرغبة المشتعلة لتخليص نفسك، وعندئذٍ فقط نجحت، لإنّه لم تكن هناك أيَ قوة في استطاعتها أن توقفك، ثم أضاف الحكيم الذي لم تفارقه ابتسامته الهادئة:
(عندما يكون لديك الرغبة المشتعلة للنجاح فلن يستطيع أحد إيقافك).([2]).
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة / الحكمة 477.
([2]) لمزيد من الاطلاع ينظر: سيكولوجية الصورة الذاتية، للشيخ مهدي المالكي، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص87-90.