المبالغة بأسماء الأفعال في نهج البلاغة: ثالثاً (آه)

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

المبالغة بأسماء الأفعال في نهج البلاغة: ثالثاً (آه)

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 09-02-2021

بقلم: د. حيدر هادي الشيباني

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
فإن أسماء الأفعال من الموضوعات اللغوية التي شغلت عناية الكثيرين من علماء العربية، قدماء ومحدثين ومعاصرين، إذ لم يخلُ كتاب في العربية قدم من ذكرها.
والمراد بأسماء الأفعال المُراد بأسماء الأفعال أنَّها ألفاظ «وُضِعت لتدل على صيغ الأفعال، كما تدلُّ الأسماء على مسمياتها»([1]).
أمّا دلالتُها فقد ذكر كثير من اللغويين أنَّها تفيد المبالغة، فضلاً عن إفادتها الاتِّساع والاختصار، قال ابن السَّرَّاج: «فجميع هذه الأسماء التي سُميَ بها الفعل إنما أُريد بها المبالغة، ولولا ذلك لكانت الأفعال قد كفَت عنها»([2])، وأكد ذلك ابن جني مفسِّرًا، فقال: «وذلك أنك في المبالغة لا بد أن تترك موضعًا إلى موضع، إمّا لفظًا إلى لفظ، وإمّا جنسًا إلى جنس»([3])، وإلى هذا ذهب ابن يعيش([4])، والرضي الاسترابادي([5]).
من هنا نجدها وردت في كتاب نهج البلاغة، وهي على النحو الآتي:
ثالثًا: آه
اسم فعل بمعنى (توجَّعتُ) الإنشائي لا (أتوجَّعُ) الخبري([6]), فالفرق واضحٌ بين (آه) والفعل (أتوجع), فلو أنَّكَ أحسسْتَ بألمٍ مُفاجئ, فقلتَ: (آه) لحقّ على الناس أنْ يسرعوا إلى نجدتك, ولكنَّك لو قلت في هذا الموقف نفسه: (أتوجع) لسألك السامع: مِمَّ تتوجع؟([7]).
والحق أنَّ (آه) غير (أتوجَّع) و(توجَّعت)؛ إذ هو اسم صوت نُقِلَ إلى أسماء الأفعال, يُشار به إلى أحداث معينة, فالمتكلم حين يُصدر هذا الصوت يرمز به إلى حدث متعارَف عليه, سواءٌ أمتوجعًا كان أم متعجِبًا([8]), وهو إذ يُنوَّن يكون أبلغ لزيادة صوته([9]).
ومن شواهد هذا البناء في نهج البلاغة ما جاء في خطبة له (عليه السلام) قائلاً لكميل بن زياد([10]) (رضوان الله عليه): «يا كُمَيْلَ بنَ زياد, هلك خُزّان الأموالِ وهم أحياءٌ, والعلماءُ باقون ما بَقِيَ الدَّهرُ, أعيانُهم مفقودةٌ, وأمثالُهم في القلوبِ مَوجودةٌ,... اللهُمَّ بلى! لا تخلو الأرضُ من قائمٍ لله بحُجَّة, إمّا ظاهرًا مَشهورًا, وإمّا خائفًا مَغمورًا,... أُولئك خلفاء الله في أرضِه,... آهِ آهِ شَوقًا إلى رؤيتِهم»([11]).
ورد في النص (آه) وهو اسم فعل يدل على التوجُّع.
يخاطب الإمام (عليه السلام) صاحبَه الجليل كُميل (رضوان الله عليه) فيخبره عن منزلة العلماء العظيمة عند الله تعالى, فهم خلفاءُ اللهِ عزَّ وجل في أرضه, والدُّعاة إلى دينِه, وأوصافُهم هذه قد هيَّجت في نفْس الإمام شوقًا إلى رؤيتهم, لهذا كرَّر الإمام التأوُّهَ بقوله: (آه آه) تأكيدًا منه على توجعه, وشوقًا إلى رؤيتهم؛ لأنَّه (عليه السلام) أحقُّ الناس برؤيتهم؛ لأنَّه شيخ العارفين وسيدهم, والشيء يشتاق إلى ما هو من سِنخِهِ وطبيعته([12]).
وفي النص أكثر من نكتة, منها أنَّ الإمام (عليه السلام) أخَّر التأوُّه بعد ذكر صفات أولياء الله تعالى, وفي ذلك إيحاء إلى أنَّ تشوُّقَه إليهم ليس بدافع عاطفي, بل للصفات التي تحلّوا بها, فالإمام (عليه السلام) لا يُحب ولا يُبغض إلا في الله تعالى, وفي هذا درس تربوي أرشدنا إليه الإمام في الحثِّ على ذكر محاسن الموتى ومآثرهم لا اغتيابهم وذكر مثالبهم وعيوبهم.
وقد يُقال: لماذا لم ينوِّن الإمام لفظ (آه) وقد ذكره مُكرَّرًا, في حين أنَّ المنوَّن يكون أبلغ كما ذكرت؟ ألا يُعدّ ذلك تناقضًا بين القولينِ؟
أقول: لا تناقض بين القولين, فالمنوَّن أبلغ من غير المنوَّن (الساكن)؛ لأنَّه أطول صوتًا, والمُحرَّك بالكسر أبلغ من المنوّن لطول صوتِه أيضًا, إذ إنَّ التنوين نونٌ ساكنة كما هو معلوم, والكسرة أطول من السكون, وكأنَّ طول الكسرة - موازنةً بالسكون - قد ناسب استمرار شوق الإمام (عليه السلام) وتوجُّعه على رفقائه أولياءِ الله تعالى, ومِمّا يَعضد هذا أنَّ الإمام قد قال (شوقًا) بالتنكير, والنكرة تدلُّ على الشمول والعموم, والله أعلم.([13]).

الهوامش:
([1]) شرح المفصل: 4/25.
([2]) الأصول في النحو: 2/134.
([3]) الخصائص: 3/46.
([4]) ينظر: شرح المفصل: 4/25.
([5]) ينظر: شرح الرضي على الكافية: 3/89.
([6]) ينظر: شرح الرضي على الكافية: 3/83 و 105, وشرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب, ابن هشام, تح: محمد محيي الدين عبد الحميد:417.
([7]) ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها: 116.
([8]) ينظر: شرح الرضي على الكافية: 3/83 - 84, ومعاني النحو: 4/39-42.
([9]) ينظر: اسم الفعل دراسة وطريقة تيسير: 68.
([10]) هو كميل بن زياد النخعي, تابعي ثقة, من أصحاب الإمام علي (عليه السلام), كان شريفًا مطاعًا في قومه, شهد صفين مع الإمام علي (عليه السلام), سكن الكوفة, وروى الحديث, قتله الحجّاج صبرًا سنة (82 هـ). ينظر: الطبقات الكبرى, ابن سعد, تح: محمد عبد القادر عطا: 6/217, والأعلام: 5/234.
([11]) شرح (ابن أبي الحديد): 18/346-347, وجاء هذا البناء في موضع آخر: 18/224.
([12]) ينظر: شرح (ابن أبي الحديد): 18/352.
[13] لمزيد من الاطلاع ينظر: ابنية المبالغة وأنماطها في نهج البلاغة، حيدر هادي الشيباني، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص129 - 131.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2782 Seconds