من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة: قوله (عليه السلام): ((مُؤَمِّلٍ مِنْ ربِّهِ، رَحْمَةً تُنْجِيهِ))

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة: قوله (عليه السلام): ((مُؤَمِّلٍ مِنْ ربِّهِ، رَحْمَةً تُنْجِيهِ))

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 07-07-2021

بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل – الجامعة المستنصرية

((الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي:
قوله عليه السلام: ((مُؤَمِّلٍ مِنْ ربِّهِ، رَحْمَةً تُنْجِيهِ))
تدلُّ مادَّة (نَجَوَ) في اللُّغة على التَّخلُّص من كلِّ خطر وأَذى. فيُقال: نجا فلانٌ من الشَّرِّ ينجو نجاةً، ونجا ينجو في السُّرعة نجاءً، فهو ناجٍ[1]. وَنَجَا المَرْءُ يَنْجُو نَجَاةً ونجاءً، أَيْ: ذهب، وانكشف من خطر يداهمُه[2]. وأَنجاه من خطرٍ، وأَنجيتُ غيري ونجَّيتُه، إذا ساعدته في النَّجاة من أَمرٍ ليس بمقدوره النَّجاة منه[3]. وناجيتُه. أَيْ: ساررْتُه، وأَصله أَنْ تخلو به في نجوةٍ من الأَرض. وقيل: أَصلُه من النَّجاة، وهو أَنْ تعاونه على ما فيه خلاصُه. أَو أَنْ تنجو بسرِّك من أَنْ يطَّلع عليك[4].
وبهذا المعنى ورد الفعل (نجى) مرَّتين في الخطبة، قرنه أَمير المؤمنين (عليه السلام) في المرَّة الأُولى بـ(الرَّحمة)؛ إذ قال: «مُؤَمِّلٍ مِنْ ربِّهِ، رَحْمَةً تُنْجِيهِ»، فبعد أَنْ أَقرَّ أَمير المؤمنين (عليه السلام) بربوبيَّة الله عَزَّ وَجَلَّ، والخضوع لعبوديَّته، وبعد أَنْ تبَرَّأَ من خطيئته، واعترف بتوحيده، أَمِلَ رحمةً من ربِّه تُخلِّصه من خطر يوم القيامة وشرِّه وأَذاه؛ وهو يومٌ يَشغلُ كُلٌّ عن فصيلته، وفصيلة الرَّجل: رهطه الأَدنون وبنوه[5].
و(تنجيه) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة المقدَّرة على الياء؛ منع من ظهورها الثــِّقل، والفاعل ضمير مستتر فيه، تقديره (هي)، عائد إلى (رحمة)، والهاء ضمير متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائدٍ إلى (مؤمل)، وجملة (تنجيه) صفة لـ(رحمة).
أَمَّا في المرَّة الثــَّانية، فقرنه (عليه السلام) بـ(التَّقوى) في مقام وصيَّته معشر مَنْ كان حاضراً عنده في مجلسه ــ وسيأْتي بيانه إنْ شاء الله تعالى ــ ؛ إذ قال (عليه السلام): «فَعَلَيْكُم بِرَهْبَةٍ تُسَكِّنُ قُلُوْبَكُم، وَخَشْيًةٍ تُذْرِىءُ دُمُوْعَكُم، وَتَقِيَّةٍ تُنْجِيْكُم».
وقد أَحسن أَمير المؤمنين (عليه السلام) حين قرن الفعل (تُنْجِيْكُم) بـ(التَّقوى)؛ إذ إنَّ التَّقوى في اللُّغة تدلُّ على الاجتناب، يُقال: وقاه الله وقياً ووقاية وواقيةً: صانه[6]. فالتَّقوى مشتقَّة من الوقاية، وهي حفظ الشَّيء ممَّا يؤذيه ويضرُّه، يُقال: وقيتُ الشَّيء أَقيه وقايةً ووقاءً[7]. قال الله تبارك وتعالى : (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ)[8].
وقد قرن أَمير المؤمنين (عليه السلام) في موضع آخر، في غير الخطبة المُوْنِقَة ــ محلِّ البحث ــ (النَّجاة) بـ(التَّقوى)؛ إذ قال (عليه السلام): «إنَّ تقوى الله مِفْتَاح ُسَدَادٍ، وَذَخِيْرَةُ مَعَادٍ، وَعِتْقٌ مِنْ كُلِّ مَلَكَةٍ، وَنَجَاةٌ مِنْ كُلِّ هَلَكَةٍ»[9].
وممَّا تجدر الإشارة إليه ــ هنا ــ أَنَّ (التَّقوى) في كلام أَمير المؤمنين جاءت مقترنة بـ(الخشية) في سياق واحد، إذ قال (عليه السلام): « فَعَلَيْكُم ... وَخَشْيًةٍ تُذْرِىءُ دُمُوْعَكُم، وَتَقِيَّةٍ تُنْجِيْكُم »، وهو بذلك يحاكي القرآن الكريم حين قال الله عَزَّ وَجَلَّ : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً) [10].
و(تنجيكم) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة المقدَّرة على الياء؛ منع من ظهورها الثــِّقل، والفاعل ضمير مستتر فيه، تقديره (هي)، عائد إلى (تقية)، و(كم) ضمير متَّصل مبنيٌّ في محلِّ نصب مفعول به، وجملة (تنجيكم) صفة لـ(تقية)[11].

الهوامش:
[1]. ينظر: العين 1/492.
[2]. ينظر: معجم مقاييس اللغة 5/397، والصحاح 6/2501.
[3]. ينظر: الصحاح 6/2501.
[4]. ينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 792و793. وينظر: جمهرة اللغة 2/87، والمحيط في اللغة 2/139، وتاج العروس 1/8615.
[5]. ينظر: مطالب السؤول 175، ومصباح المتهجّدين33، وكفاية الطالب 55، ونهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 2/82.
[6]. ينظر: لسان العرب 20/281.
[7]. ينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 833.
[8]. غافر: 45.
[9]. منهاج البراعة (للخوئي): 4/200.
[10]. النساء: 9.
[11]لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 40 –42.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.4549 Seconds