الحلقة الثانية: لماذا لم يتمكن آدم عليه السلام من رؤية الأشباح فرأى نورها، ولماذا قال ما هذه، ولم يقل من هذه؟
بقلم: السيد نبيل الحسني
إنّ من الحقائق التي كشفها حديث الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) والتي تعلقت بخلق أنوار محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته ومرّ ذكرها في الحلقة السابقة؛ وفي هذه الحلقة نتناول مسألة جديدة وهي: حقيقة عدم تمكن نبي الله آدم (عليه السلام) من رؤية أشباح أنوارهم (عليهم السلام)، حينما نقلها الله تعالى من ذروة العرش إلى صلب آدم (عليه السلام) فسطع نورها من صلبه فرآها (عليه السلام)، فقال:
(يا رب ما هذه الأنوار)؟
وسؤاله هنا:
كان لسبب واحد وهو اعتقاده بأنه الخليفة، وأنه المفضل على الملائكة والمختار من بين خلق الله تعالى لهذه المهمة، ومن ثم فإن وجود هذه الأنوار يبعث على التساؤل كما تساءلت الملائكة من قبل عن العلة في خلق مخلوق جديد يناط إليه هذا العمل، وهم قد امتازوا بخصائص عدّة كشفها سؤالهم لربهم قائلين له جلت قدرته:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ }([1]).
أي: لدينا من المؤهلات ما تمكننا من القدرة على تحمل هذه المسؤولية.
ولذلك:
حينما رأى آدم هذه الأنوار بدا له أن هناك خلقاً غير الملائكة ولهم عند الله تعالى من المكانة السامية ما ليس لأحد غيرهم، ولا ينالها ويرقى إليها أحد سواهم لاسيما وإنه لم يتمكّن من رؤية الأشباح وإنما رأى أنوار هذه الأشباح.
بمعنى: أن هذه الحالة التي ظهرت أمامه من عدم تمكن رؤيته للأشباح هي بحد ذاتها تعد رتبة عالية تستلزم منه أن يكون حائزاً على خصائص معينة كي يتمكن من رؤيتها، ومثال ذلك كمن أراد أن ينظر إلى عين الشمس بدون وسيلة تحفظ له عينه فإنه لن يتمكن من النظر إلى عين الشمس سوى للحظات محدودة، وذلك بسبب شدة إضاءتها وقوة وهجها.
وكذا آدم (عليه السلام) ليس له القدرة بالنظر إلى وهج هذه الأشباح النورانية على الرغم من أنّ لديه إمكانيات خاصة تتمثل بأنه النبي والخليفة.
ولذلك: كي يتعرف آدم (عليه السلام) على هذه الأنوار فلابد من وسيلة يتمكن من خلالها من النظر إلى مصدر هذه الأنوار، فكان الجواب من الباري عزّ وجل على سؤاله، أن قال له: (أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك، ولذلك أمرت الملائكة بالسجود لك إذ كنت وعاء لتلك الأشباح).
وهذه الإجابة: تكشف لآدم (عليه السلام) حقائق لم يكن يعلمها قبل رؤيته لهذه الأنوار، وهي:
1ــ أنها أنوار أشباح، أي أن الذي رآه هو أنوار هذه الأشباح وليس عين الأشباح.
2ــ أن هذه الأشباح كانت في أشرف بقاع العرش.
3ــ أن الله تعالى نقلها من ذلك المكان إلى ظهر آدم (عليه السلام).
4ــ أن العلة في سجود الملائكة إليه كانت لهذه الأشباح وليس لشخص آدم (عليه السلام).
5ــ أن من العناوين التي اختارها الله له بكونه خليفة أن جعله الله عزّ وجل وعاءً لتلك الأشباح النورانية.
ولذلك نجده (عليه السلام) بعد أن تبين له هذه الحقائق عن هذه الأنوار التي رآها، أحب أن يتبينها، ويتعرف على شخوصها فهو إلى الآن لم يتمكن من تشخيص هذه الأنوار لشدة نورها.
فقال (عليه السلام):
(يا ربّ لو بيّنتها لي)؟!
وبيان هذه الأنوار مع عدم وجود الوسيلة متعذر لدى آدم (عليه السلام) ولو كان قادراً لما سأل ربه عن بيانها، ولذلك كانت الوسيلة هو أن ينظر إلى ذروة العرش كما نصّ عليه الحديث الشريف.
فقال الله تعالى: (أنظر يا آدم إلى ذروة العرش، فنظر آدم (عليه السلام) ووقع نور أشباحنا من ظهر آدم على ذروة العرش فانطبع فيه صور أشباحنا كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية فرأى أشباحنا).
وهنا: تتكشف لنا حقيقة أخرى، إذ إن آدم (عليه السلام) حينما أراد أن ينظر إلى أشباح محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته، نظر إلى ذروة العرش، بمعنى: أن آدم يتمكن من النظر إلى ذروة العرش لكنه لم يتمكن من النظر إلى تلك الأشباح وهذا يكشف ــ وكما مرَّ سابقا ــ أن العرش مخلوق من هذه الأنوار ، ومن ثم فهو من الصنعة وليس من الأصل الذي خلق الله منه كل شيء أي نور النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله )، وهذا أولا.
وثانيا: لوجود التجانس بين العرش وهذه الأشباح بعلة خلق العرش منها ، ومثاله تجانس الثلج مع الماء ، فالأصل هو الماء والصنعة هي الثلج.
ولذلك: انطبعت في العرش صور أشباح رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعترته أهل بيته (عليهم السلام) كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية فرأى الأشباح، أي تحققت الواسطة.
ولكن مع وجود هذه الواسطة إلا أن آدم (عليه السلام) لم يتمكن من تشخيص هذه الأشباح، ولذا نراه قال لربه عزّ وجل:
(ما هذه الأشباح يا رب؟!) وسؤاله بصيغة: (ما هذه؟) يكشف عن عدم قدرته على التشخيص ولو قال: (من هذه) أو (من هؤلاء) لكشف سؤاله عن رتبة أعلى من التشخيص، ولكن حتى في هذه الصيغة فإن ذلك ليدل على عدم تمكنه من التبيان والتشخيص لهذه الأشباح إلا أنّ هذه الصيغة أعلى رتبة من المعرفة من قوله (ما هذا).
والفرق بين الصيغتين أو اللفظين قد أشار إليه العلامة الطباطبائي في تفسير قوله تعالى:
{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}([2]).
قال (رحمه الله) : (إذ رأيت شبح إنسان لا تدري أرجل هو أم امرأة تسأل وتقول: من هذا؟ تريد الشخص لأنك لا تعلم منه أزيد من أنه شخص إنسان، فيقال: امرأة فلان أو هو فلان، وإذا رأيت شبحاً لا تدري إنسان هو أو حيوان أو جماد تقول: ما هذا؟ تريد الشبح، أو المشار إليه، إذ لا علم لك من حاله إلا أنه شيء جسماني أيا ما كان، فيقال لك هذا زيد أو هذه امرأة فلان، أو هو شاخص كذا.
ففي جميع ذلك تراعي ــ وأنت جاهل بالأمر ــ من شأن أولي العقل وغيره، والذكورية والأنوثية مقدار ما لك به علم؛ وأما المجيب العالم بحقيقة الحال فعليه أن يراعي الحقيقة)([3]).
من هنا: كان سؤال نبي الله آدم (عليه السلام): (ما هذه الأشباح يا رب؟) يكشف عن رؤيته للأشباح من دون القدرة على تشخيصها هل هي لرجال أو لنساء، أو لجمادات، فقد تبين له الشاخص ولم يتبين شبح الشخص، ولذلك: سأل عن الأشباح وليس عن أشخاصها.
فكان الجواب من رب العزة سبحانه أنه قال:
(يا آدم هذه الأشباح أفضل خلائقي وبرياتي، هذا محمد وأنا الحميد المحمود، وهذا علي وأنا العلي العظيم، شققت له اسماً من أسمائي، وهذه فاطمة، وأنا فاطر السموات والأرضين، فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي وفاطم أوليائي عما يصيبهم ويشينهم، فشققت لها اسما من اسمي.
هؤلاء خيار خليقتي وكرام بريتي، بهم آخذ، وبهم أعاقب، وبهم أثيب، فتوسل إلي بهم يا آدم وإذا دهتك داهية فاجعلهم إلي شفعاءك فإني آليت على نفسي قسماً حقا لا أخيب بهم أملاً ولا أرد بهم سائلاً.
فلذلك حين زلت الخطيئة دعا الله عزّ وجل بهم فتاب عليه وغفر له)([4]).
يتبع في الحلقة القادمة إن شاء الله.[5]
([1]) سورة البقرة، الآية: 30.
([2]) سورة الأنعام، الآية: 78.
([3]) تفسير الميزان: ج7، ص158.
([4]) تفسير الإمام العسكري عليه السلام: ص220؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج26، ص328، وج11، ص151.
[5] لمزيد من الاطلاع ، ينظر: موسوعة هذه فاطمة (عليها السلام) ، السيد نبيل الحسني : ج1 ص93-98 ط1 مؤسسة الاعلمي بيروت –لبنان.