القضايا الكلامية والتأملات الكونية كما تبدو في نهج البلاغة التأمل وتداعي الأفكار، والغيبيات، كما تبدو في فكر علي (عليه السلام)

مقالات وبحوث

القضايا الكلامية والتأملات الكونية كما تبدو في نهج البلاغة التأمل وتداعي الأفكار، والغيبيات، كما تبدو في فكر علي (عليه السلام)

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 23-08-2025

أ- الأوصاف الطبيعية والغاية منها في فكر علي (عليه السلام)

بقلم: د. جليل منصور العريَّض

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:
إن عنونة الشريف الرضي لبعض خطب النهج بعناوين موضوعات الوصف التي عرض إليها علي(عليه السلام) لا يعني على الإطلاق، أن عليا (عليه السلام) قد أورد ذلك الوصف كغاية في حد ذاته، بمعنى آخر أن موضوعات الوصف تلك لا تشكل نصوصا قائمة بذاتها من حيث بنائها الفني، فهي مدرجة ضمن نصوص دينية الغاية منها التوعية وترسيخ العقيدة، فاقتطاع تلك الأوصاف من سياقتها، يفقدها وظائفها التأملية، لأنها ـ كما نعتقد ـ امثلة عملية تطبيقية الغاية منها تقريب ما أجملته مطالع الخطب التي وردت فيها، من أقوال في التوحيد، إلى اذهان المستمعين، ليتسنى الاقتناع بها، والتأثر بما ورد فيها، باستثارة العقل، فموضوع وصف الطبيعة وبعض الكائنات، من العناصر الهامة لتقريب قضية الإيمان، وهو في النهج من جنس المثل في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة([1]).

فمن خلال ملاحظتنا للبناء المحكم الذي تميزت به نصوص النهج ـ رغم الحذف الذي أجراه الرضي على كثير منها نرى أن نسيجه الأسلوبي من الترابط بحيث لا يمكن فصل هذا الجانب التأملي من فكر علي(عليه السلام)، عن البناء العام لفكره، فما انساب في تلك النصوص من اوصاف جمالية، مرتبطة في سياقه العام بالفكر الاجتماعي المتبلور في احد جوانبه بمعالجته لظاهرة تغلب الطابع المادي على الطابع الروحي، الذي على اساسه قاس علي(عليه السلام) إيمان أفراد المجتمع حين قسمهم من حيث العبادة إلى ثلاثة أقسام ضمنها قوله «أن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وان قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار»([2]) فالتقسيم في المقولة يعكس من أحد جوانبه الحالة الاجتماعية وعلاقتها بالتطلعات المادية، وهذا ما يمكن تطبيقه ـ من وجهة نظرنا ـ على ما ورد من أوصاف جمالية ضمن نصوصها التي وردت في سياقاتها، الغاية من روائها التأمل في أقرب الأشياء، وأحقر الأشياء، وأعجب الأشياء، ليصل العقل في النهاية إلى إدراك الخالق العظيم من خلالها. فالثلاث فئات التي ذكرها علي (عليه السلام) في مقولته تعبد الله ولكن بتفاوت. تحكمه ظروف المستمع النفسية التي ترجع في الأساس إلى الطبيعة التي جبل عليها كل فرد، ولا بد من التحدث إليه ضمن الفئة التي ينتمي إليها بالأسلوب الذي يناسبه وإلا فلا جدوى من التحدث إليه، فقد عالج علي (عليه السلام) قضية الإيمان من أجدى زواياها بأسلوب التوصيل الذي يصلح لإقناع كل فئة على حدة، ويمكن إدراك أساليبه تلك من تبعنا لما عرض إليه من أوصاف جمالية في سياقاتها:

أولاً- أسلوب الترغيب (عبادة التجار):
جبلت النفس الإنسانية على حب الذات والجري وراء كل ما فيه متعة ولذة وجمال فهي عادة ما تنبسط وتستجيب إذا ما أحست بما يدفعها نحو راحتها ويثير فيها كوامن الحوافز نحو هدفها، وكلما نجحت في الحصول على ما تشتهي سعى بها ذلك إلى طلب المزيد، ومن ورائها الدافع المنطوي على المغريات يحثها فالترغيب في الشيء البعيد المنال هو حافز طبيعي للإنسان يجري وراءه، ويثابر في الحصول عليه، لذلك ورد مثل ذلك الأسلوب الترغيبي ضمن آيات كثيرة في القرآن الكريم بتصوير الجنة، وما يحف بها من حدائق غناء تجرى خلالها انهار من خمر وعسل ولبن([3])، إلى غير ذلك من مغريات مادية تجعل الفرد يستجيب لنداء ربه عن طريق الترغيب، وقد ورد مثل ذلك أيضاً ضمن كثير من الأحاديث النبوية الشريفة وقد انعكس هذا الأسلوب الترغيبي على ما أثر عن علي(عليه السلام) من خطب، فمن أبرز النصوص التي تجلى فيها عنصر الترغيب، الخطبة التي ضمنها وصف الطيور عامة، والطاووس منها على وجه الخصوص لما في خلقه من ابداعات تجتذب النفوس وتحير العقول، وفي اعتقادنا، ان اختيار علي(عليه السلام) الطاووس كمثال دون غيره من الطيور ذوات الألوان الزاهية، هو غاية في التوفيق، خاصة أنه ركز على الناحية الجمالية فيه، بوصف ألوانه وصفا رائعا ودقيقا من أجل تهيئة النفوس، وإعداد العقول لموضوع الإيمان الذي من أجله أورد علي(عليه السلام) ذلك الوصف، الذي استفرغ فيه كل ما أمكنه من طاقات لغوية، مستلهما معاني القرآن الكريم مستنجدا بأساليبه ليستجيب ذلك المثل لما يرمي إليه من أهداف دينية. مع ملاحظة أن الخطبة التي نحن بصددها ليست بكاملة، لأنها لم تبدأ بالتحميد والصلاة على الرسول (صلى الله عليه وآله)، حيث ابتدأت بالوصف مباشرة إذ جاء في مطلعها «إبتدعهم خلقا جديدا من حيوان وموات، وساكن وذي حركات، واقام من شواهد البينات على لطيف صنعته وعظيم قدرته»([4]) فمطلع النص ناقص من حيث استيحائه للفكرة القائم عليها، والتي تبدو ومعالمها من خلال السياق الترغيبي المتمثل في أسلوب  الاستدراج المرحلي، من وصف عام للطيور مع تركيز على اشكالها، وعجيب ألوانها بأسلوب يدعو إلى التأمل كما في قوله «ونعقت في اسماعنا دلائله على وحدانيته وما ذرأ من مختلف صور الأطيار التي اسكنها أخاديد الأرض وخروق فجاجها، ورواسي أعلامها، من ذوات أجنحة مختلفة وهيئات متباينة... كونها بعد إذ لم تكن في عجائب صور ظاهرة... ونسقها على اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته، ودقيق صنعته، فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه...»([5]) ثم يمضي في أسلوب  الاستدراج بعد الوصف العام إلى تخصيص الوصف في الطاووس مركزا على عجيب شكله، وجمال الوانه مفتتحاً ذلك الوصف بقوله «ومن أعجبها خلقا الطاووس، الذي أقامه في أحسن تعديل، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد بجناح أشرج قصبه، وذنب أطال مسحبه، إذا درج إلى الأنثى نشره من طيه وسما مطلا به على رأسه»([6]) ويمضي في وصف حركاته، وإبداع الخالق في تنسيق ألوانه، مستلهما البيئة في تشبيهاته، حتى إذا احس بانشداد مستمعه إليه بعد ان أخذه في رحلة تأملية عاد به إلى الواقع المرجو من كل ذلك الوصف في قوله «فسبحان الذي بهر العقول عن وصف خلق جلاه للعيون، فأدركته محدود ومؤلفا ملونا، وأعجز الألسن عن تلخيص صفته، وقعد بها عن تأدية نعته»([7]).

ثم يستطرد في تسبيحه مستعرضا في عجالة خاطفة خلق أصناف أنواع أخرى من الحيوان، حتى إذا أحس من مستمعه الاقتناع الممزوج بالتأمل، دخل به إلى غرضه الرئيسي، وهو الإيمان عن طريق الترغيب بعد ان هيأ نفسه إلى ما يريد بثه فيها متابعا نهجه الاستدراجي التأملي وذلك بالانتقال إلى وصف الجنة في قوله «فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها، لعزفت نفسك عن بدائع ما أخرج إلى الدنيا من شهواتها ولذاتها وزخارفها، ولذهلت بالفكر في اصطفاق أشجار غيبت عروقها في كثبان المسك على سواحل أنهارها، وفي تعليق كبائس اللؤلؤ الرطب في عساليجها وأفنانها، وطلوع تلك الثمار مختلفة في غلف أكمامها...»([8]) كل ذلك أعده الله سبحانه كما يقول علي(عليه السلام): لقوم «لم تزل الكرامة تتمادى بهم حتى حلوا دار القرار، وآمنوا نقلة الأسفار، فلو شغلت قلبك أيها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المؤنقة، لزهقت نفسك شوقا إليها، ولتحملت من مجلسي هذا إلى محاورة أهل القبور استعجالا بها. جعلنا الله واياكم ممن يسعى بقلبه إلى منازل الابرار برحمته»([9])، فالرحلة التاميلية التي أخذ علي(عليه السلام) بلب مستمعه إليها جذابة ومغرية، والوصف كان محورها والنفس الطامعة في نعيم الله كانت الجائلة في ربوعها، ونعيم الفردوس هو جزاء تلك النفس على ايمانها لله)([10]).

الهوامش:
([1]) مما جاء في القرآن الكريم من وصف للجنة قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} محمد /15، كما ان اوصاف الجنة في الاحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وآله كثيرة يمكن ادركها من قوله صلى الله عليه وآله: «قال الله عز وجل: اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» صحيح مسلم 4/2174.
([2]) حكم ـ 236.
([3]) أنظر في القرآن الكريم ـ محمد/15.
([4]) خطب ـ 166 ـ الفقرة 1.
([5]) السابق وذرأ: خلق، واأخاديد ـ جمع أخدود: الشق في الأرض، والخروق: الأرض الواسعة تخترق فيها الرياح، والفجاج- جمع فج: الطريق الواسع، والاعلام: جمع علم وهو الجبل، ونسقها: رتبها، والأصابيغ، مفرده صبغ وهو اللون وما يصبع به.
([6]) السابق، نضد: نظم ورتب، واشرح قصبه، أي داخل بين آحاده ونظمها على اختلافها في الطول والقصر، إذا درج إلى أنثاه: إذا مشى إليها نشر ذلك الذنب بعد أن كان مطويا يسحبه لطوله.
([7]) المصدر السابق نفسه. بهر العقول: قهرها وردها، جلاله ـ بتشديد اللام وفتحها: كشفه.
([8]) السابق ـ فقرة 5ـ وعزفت: نبذت وكرهت، اصطفاقي الأشجار: حفيفها، والكثبان ـ جمع كثيب: التل، عساليجها ـ جمع تكسير مفرده عَسلج بضم فسكون فضم، أو عسلوج: وهو الغصن اللدن الناعم، أفنانها ـ جمع تكسير مفرده فنن: الغصن، وغلف ـ بضمتين جمع غلاف ـ هو الوعاء النباتي الذي يحفظ طلع النخلة فيها، والإكمام ـ جمع كم بكسر الكاف ـ وهو غطاء النوار، والمؤنقة: المعجبة.
([9]) المصدر السابق نفسه.
([10]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 534-539.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.1082 Seconds