من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام دلالة الفعل ((صُلِّي)) في قوله عليه السلام: «وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِتَكْبِيْرٍ»

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام دلالة الفعل ((صُلِّي)) في قوله عليه السلام: «وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِتَكْبِيْرٍ»

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 16-09-2025

بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل

الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي:

اختلف اللُّغويُّون والمفسِّرون في الأَصل اللُّغوي للصَّلاة على أَقوال. فذهب بعضهم إِلى أَنــَّها مشتقَّة من اللُّزوم، فذهب هؤلاء إلى أَنَّ الصَّلاة من أَعظم الفرائض الَّتي أَمر الله بلزومها، والحفاظ عليها؛ لهذا قال الزَّجَّاج: «وأَصل هذا عندي كلّه من اللُّزوم يُقال: صلَّى وأَصلى واصطلى: إذا لزم»([1]). وذهب الطُّوسيّ إلى أَنــَّها مأْخوذة من معنى اللُّزوم؛ لأَنــَّها من أَعظم ما يلتزم به([2]).
وذهب أَكثر اللُّغويين والمفسِّرين إلى أَنَّ أَصل الصَّلاة في اللُّغة: الدُّعاء([3])، فكأَنَّ الصَّلاة سمِّيت على هذا ببعض ما تتضمَّنه، أَيْ: بتسمية الكلِّ باسم الجزء، وهي من المجاز المرسل الَّذي علاقته الجزئيَّة([4]).

وذهب عدد من اللُّغويين والمفسِّرين إلى أَنَّ الصَّلاة مشتقَّة من (الصلْوَيْنِ)([5])، وهو مثنى، مفرده: (الصّلا)، قال ابن دريد: «والصّلا: العظم الَّذي عليه الإليتان، وهو آخر ما يبلى من الإنسان في القبر»([6])، وذكر هؤلاء أَنَّ الصلاة مشتقَّة من الصلوين؛ لأَنَّ المصلِّي يرفعهما في سجوده وركوعه ([7]).
وذهب عدد من اللُّغويين والمفسِّرين إلى أَنَّ الصَّلاة مشتقَّة من الأَثر واللُّزوم، كالَّذي يلحظ في تسابق الخيل؛ إذ رأَى هؤلاء أَنَّ السَّابق فيها يتلو اللَّاحق، ويضع جحفلته ــ وهي للفرس كالشَّفة للإنسان ــ على صلا السَّابق، وبهذا يكون المصلِّي من الخيل الَّذي يتلو سابقه مباشرة([8]).

وقيل إنــَّها من الصِّلاء، وهو بكسر الصَّاد يقرأُ ممدوداً، وبفتحه يقرأُ الصَّلا مقصوراً، ومعنى الصِّلاء أَو الصَّلا: مقاساة حرِّ النَّار وإيقادها([9]). قال الرَّاغب: «أَصل الصَّلاة من الصَّلى، قال: ومعنى: صلَّى الرَّجل، أَيْ: إنــَّه ذاد، وأَزال عن نفسه بهذه العبادة الصَّلَى الَّذي هو نار الله الموقدة، وبناء (صلّى)، كبناء (مرّض) لإزالة المرض)([10]).
وذهب بعضهم إلى أَنــَّها مشتقَّة من الصِّلة؛ لأَنــَّها تصل الإنسان بخالقه، وتقرِّبُه من رحمته ([11]).
وقيل إنــَّها مأْخوذة من كلمة (صَلُوتا) العبريَّة، ومعناها: مكان الصَّلاة([12]).
وقيل إنــَّها لفظة بابليَّة، جعلت اسماً لعبادة معيَّنة في شريعة إبراهيم (عليه السلام)، ودخلت العربيَّة منذ هجرة إسماعيل (عليه السلام) ([13]).

أَمَّا معنى الصَّلاة اصطلاحاً، فقد ذكر الطُّوسيّ: «أَنــَّها في الشَّرع عبارة عن الرُّكوع والسُّجود على وجه مخصوص، وأَركان وأَذكار مخصوصة»([14]). وقال الرَّاغب: «والصَّلاة الَّتي هي العبادة المخصوصة، أَصلها الدُّعاء، وسمِّيت هذه العبادة بها، كتسمية الشَّيء باسم بعض ما تتضمَّنه»([15]). وقال ابن الأَثير: «وهي العبادة المخصوصة، وأَصلها في اللُّغة: الدُّعاء، فسمِّيت ببعض أَجزائها، وقيل: إنَّ أَصلها في اللُّغة: التَّعظيم، وسمِّيت العبادة المخصوصة صلاة؛ لما فيها من تعظيم الرَّب تعالى، وقوله في التَّشهُّد: الصَّلوات لله: أَيْ: الأَدعية التي يُراد بها تعظيم الله تعالى، وهو مستحقُّها لا تليق بأَحد سواه» ([16]).
وقال الجرجانيّ: إنــَّها «أَركان مخصوصة، وأَذكار معلومة بشرائط محصورة في أَوقات مقدَّرة» ([17]).
وجاء هذا الفعل (صلَّى) مرَّتين في الخطبة، أَورده أَمير المؤمنين (عليه السلام) في المرَّة الأُولى في الصَّلاة على الميِّت؛ إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرَ عَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ وَوُدِّعَ وَسُلِّمَ، وحُمِلَ فَوْقَ سَرِيْرٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِتَكْبِيْرٍ».

وذكر الفقهاء في رسائلهم العمليَّة في باب (الصَّلاة على الميِّت) كيفيَّتها، وهي خمس تكبيرات: يُكبِّر أَوَّلاً، ويتشهَّد الشَّهادتين بأَنْ يقول: أَشهد أَنْ لا إله إلاَّ الله، وأَشهد أَنَّ محمَّداً عبده ورسوله. ويكبِّر ثانياً، ويُصلِّي على النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بأَنْ يقول: اللهمَّ صلِّ على محمَّد وآل محمَّد. ويكبَّر ثالثاً، ويدعو للمؤمنين والمؤمنات بأَنْ يقول: اللهمَّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات. ويكبِّر رابعاً، ويدعو للميِّت بأَنْ يقول: اللهمَّ اغفر لهذا الميِّت، ويكبِّر خامساً، وينصرف ([18]).
وجيء بالفعل (صُلِّي) مبنيًّا للمجهول للتَّركيز على الحدث، وهو الصَّلاة على الميِّت، والجهل بِمَنْ سيصلي على ذلك الميِّت.

و(صُلّي) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازاً، و(عليه) على: حرف جرٍّ، والهاء: ضمير متَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (صُلِّي)، و(بتكبير) الباء: حرف جرٍّ، و(تكبير) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (صُلِّي). وجملة (وصُلِّي عليه بتكبير) معطوفة على جملة (وحُمِلَ فوق سرير).
أَمَّا في المرَّة الثــَّانية، فقد أَورد أَمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الفعل (صَلَّتْ) في ختام الخطبة في الصَّلاة على النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ؛ إذ قال (عليه السلام): «ذلك قولٌ فَضْلٌ، وحُكْمٌ عَدْلٌ، خيرٌ قَصَصٍ قُصَّ، ووَعْظٍ نُصَّ، تَنْزِيْلٌ مِنْ حَكِيْمٍ حَمِيْدٍ، نَزَلَ بِهِ رُوْحُ قُدُسٍ مُبِيْنٍ، عَلَىْ قَلْبِ نَبِيٍّ مُهْتَدٍ مَكِيْنٍ، صَلَّتْ عَلَيْهِ رُسُلٌ سَفَرةٌ، مُكَرَّمُوْنَ بَرَرَةٌ».
وجدير بالذِّكر أَنَّ المفسِّرين واللُّغويين فسَّروا دلالة الصَّلاة من الملائكة على النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بالدُّعاء، والاستغفار ([19]).

و(صَلَّتْ) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والتَّاء: تاء التَّأنيث، ضمير متَّصل مبنيٌّ على السُّكون، لا محلَّ له من الإعراب، (وعليه) على: حرف جرٍّ، والهاء: ضمير متَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (صَلَّتْ)، و(رُسُلٌ) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، و(سَفَرةٌ) صفة مرفوعة، وعلامة رفعها الضَّمَّة الظَّاهرة على آخرها)([20]).

الهوامش:
([1]). معاني القرآن وإعرابه: 1/251. وينظر: لسان العرب: 14/464.
([2]). ينظر: التبيان في تفسير القرآن: 1/57.
([3]). ينظر: تأويل مشكل القرآن: 460، والتبيان في تفسير القرآن: 1/57، وأحاديث التعبد النبوية في ضوء نظرية الحقول الدلالية (أطروحة دكتوراه): 135.
([4]). ينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 490.
([5]). ينظر: المصباح المنير: 1/271، وأحاديث التعبد النبوية في ضوء نظرية الحقول الدلالية (أطروحة دكتوراه): 137.
([6]). جمهرة اللغة: 3/88.
([7]). ينظر: التبيان في تفسير القرآن: 1/194.
([8]). ينظر: تهذيب اللغة: 4/230، ونظام الغريب في اللغة: 160.
([9]). ينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 490.
([10]). ينظر: المصدر نفسه: 491.
([11]). ينظر: روح الدين الإسلامي: 21، وأحادي التعبد النبوية في ضوء نظرية الحقول الدلالية (أطروحة دكتوراه): 139.
([12]). ينظر: فلسفة الصلاة: 28.
([13]). ينظر: المصدر نفسه: 29.
([14]). التبيان في تفسير القرآن: 1/57.
([15]). مفردات ألفاظ القرآن: 491.
([16]). النهاية في غريب الحديث والأثر: 3/95.
([17]). التعريفات: 175.
([18]). ينظر: منهاج الصالحين (للخوئي): 83، وموجز الفتاوى المستنبطة (للغروي): 105، ومنهج الصالحين (للسيد الصدر): 75، وأحكام العبادات (للمدرسي): 14، وسبل السلام (لليعقوبي): 116.
([19]). ينظر: تأويل مشاكل القرآن: 460، ومعاني القرآن (للأخفش): 2/246، ومفردات ألفاظ القرآن: 490.
([20]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص233-237.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.0915 Seconds