بقلم: د. حسام عدنان الياسري.
الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانع كل غنيمة وفضل، وكاشف عظيمة وأزل، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الاطهار.
وبعد:
ويطلق عليها الإمام (عليه السلام) تسمية (الرَّواحل)، وذلك في قوله الذي يصف فيه أفعال المنافقين مع رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((... وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَاضَ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ كُلَّ غَمْرَة([1])، وَتَجَرَّعَ فِيهِ كُلَّ غُصَّة([2])، وَقَدْ تَلَوَّنَ لَه الاَدْنَوْنَ([3])، وَتَأَلَّبَ([4]) عَلَيْهِ الاْقْصَوْن([5])، وَخَلَعَتْ إِلَيْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا، وَضَرَبَتْ إِلَى مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا، حَتَّى أنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عَدَاوتَهَا...))([6]).
والنص يوضح معاناة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الشدائد في سبيل رضوان الله تبارك وتعالى، حتى تقلب له الأقربون من قريش، واجتمع عليه الأبعدون محاولين أن يؤذوه. فلما أسقط في أَيديهم حاربوه. وقد عبر الإمام (عليه السلام) عن حربهم له بـ (خَلْع الأعِنَّة)، و (ضَرْب بُطُوْنِ الرَّواحل) وخلع الأَعنة والرسن من الفرس دلالة على الإعلان بالشر، إذ يكون الفرس - حينذاك - مسرعاً لا قياد له، لأنه مخلوع الرسن، وأَسرعُ الخيل ما خلع عنانه([7]). فاستعمل الإمام هذا التعبير للدلالة على إجلاب العرب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومحاربته، وأما ((وَضَرَبَتْ إِلَى مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا))، فالضرب لفظ يقع على جميع الأعمال، ومنه الضرب بمعنى الإسراع([8])، وضرب بطون الرواحل كناية عن ارتحالها، والإسراع بها في السير إلى الحرب، أو كناية بها عن إسراف العرب نحو محاربة النبي (صلى الله عليه وآله)([9]). ويستفاد هذا المعنى من الدلالات المعجمية لمفردة (ضَرَبَ)، إذ يقال: ضربت في الأرض بمعنى سافرت([10]). وضُربت أكباد الإبل إذا سير عليها في السفر([11]). أقول: وبدلاً من: (ضرِبَتْ أَكْبَادُ الإبل)؛ استعمل الإمام تعبير (ضربتْ بُطُوْنُ الرَّواحل)؛ للدلالة على الإسراع في السير إلى محاربة الرسول (صلى الله عليه وآله). وإنما استعمل (عليه السلام) مفردة (رَوَاحِل) في هذا السياق دون غيرها من الألفاظ الأخرى؛ لأنها لا تستعمل في الإغارة على العدو في الحرب، وإنما الذي يغار عليها هي الخيل، فإن الإبل تركب في الحج وأشباهه، في حين أن (الخيل) تركب في الجهاد في سبيل الله وغيرها من المعارك بحسب ما يذكر اللغويون([12]). وهذا يعني أن الإبل مخصوصة عند العرب بالأمور السلمية، وفي الأسفار البعيدة؛ لأنها قوية تحتمل مشاق السفر ومتاعبه، فضلاً عن قدرتها على حمل الأمتعة والهوادج. وبهذا المعنى يمكن أن يكون قصد الإمام من ذلك أن هؤلاء العرب الذين تألبوا على النبي (صلى الله عليه وآله)، استعملوا كل ما يمكنهم استعماله من وسائل في محاربته والايجاف عليه، بما يملكونه من عدد وعدة - كما يقال -، فاستعملوا خيلهم ورواحلهم، وجاؤوه فرساناً ورَكْبَاناً([13]) متخذين (رَوَاحِلَهُم) واسطة للإجلاب على الرسول الأكرم بعد أنْ كانت مخصوصة بالسفر والارتحال والتجارة، فجعلوها في ميدان القتال خلافاً لعاداتهم التي هجروها لأجل القضاء على الإسلام. فالمعروف عندهم أن الخيل للحرب والقتال، و (الرّواحل) للأسفار([14])؛ حتى شاع لديهم القول بعد الإسلام إن الإبل للحج، والخيل للجهاد([15]). وهذا موروث من حياتهم التي سادت قبل الإسلام؛ لأن الإبل لا تسمى (رَوَاحِل) إلاّ إذا ارتحل عليها في الأسفار، وحملت عليها الأَحمال؛ إذ يختارون منها البعير أو الناقة القويين النجيبين مع تمام الخلق وحسن المنظر، حتى يكاد الراحلة تعرف من بين جماعة الإبل اذا أقبلت([16]). وقد خص بعض اللغويين (الرَّاحِلَة) بالبعير القوي، الذي يسمى عندهم (راحلة) بالتأنيث. والهاء فيه للمبالغة في الصفة أو على النسب، كأنهم قالوا: إنها ذات رحل([17]).
أقول: ومن هذا المعنى الذي ذكره اللغويون يمكن تعزيز فكرة تسخير العرب لكل إمكاناتهم في القضاء على النبي الأكرم، ومن ثم القضاء على الاسلام، كأن الإمام (عليه السلام) يريد القول: إنّهم أطْلَقُوا العِنَان لخيولهم وفرسانهم في الإجلاب على النبي (صلى الله عليه وآله)، وضربوا بطون رواحلهم سراعاً في التهيئِ والاستعداد للنزول بساحته. وقد أفادت مفردة (رَوَاحل) في هذا النص الدلالة على جمعهم لكل قوتهم، وطاقاتهم في قتال النبي، وذلك من خلال دلالة المفردة نفسها على البعير القوي الشديد التحمل، فضلاً عن استعمال المفردة بصيغة الجمع على (فَواعِل)، فيه إشارة إلى كثرة من هجم على النبي منهم من الركبان والرَّجّالة، وهذه الدلالة العددية مستفادة من دلالة هذا الجمع على الكثرة أولاً([18])، فضلاً عن دلالته على معنى الاسمية، فكأنه وصف تحول إلى اسم([19])؛ لأن بناء (فَوَاعِل) مخصوص بجمع الأسماء أكثر مما هو لجمع الصفات([20]). والقياس في جمع (رَاحِلَة) هو (رُحَّل) علي وزن (فُعَّلَ)؛ لأن (رَاحِلَة) وصف مفرد على وزن فاعلة صحيحة اللام، وهذهِ الشروط توجب جمعها على (فُعَّل). ولكن الإمام (عليه السلام) استعملها مجموعة على (فَوَاعِل) الذي أضفى عليه الإمام في هذا السياق دلالة الحركة والتكثير وهي دلالات اختص بها بناء (فُعَّل) كما يذكر الدارسون([21]). الذين قطعوا عند تفريقهم بين بناء (فَوَاعِل) و (فُعَّل) أن الأول خاص بجمع الصفات التي تقترب من معنى الإسمية والثبوت. فضلاً عن خلوه من معنى الحركة الظاهرة([22]). في حين أن (فُعّلاً) يتضمن الحركة الظاهرة والمبالغة في الكثرة ([23]). وتعليقاً على ذلك. أقول: إن ما ذهب اليه الدكتور فاضل السامرائي صحيح، غير أن السياق هو الفيصل في تحديد الدلالات الصرفية للبناء، فدلالة - الحركة الظاهرة - كما يسميها الدكتور فاضل السامرائي - واضحة في قول الإمام ((وَضَرَبَتْ إِلَى مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا))، إذا كان المراد بالحركة الظاهرة حركة الإبل الروَاحِل عند إسراعها نحو غايتها كما كانت الحركة ظاهرة في المثال القرآني الذي احتج به الدكتور السامرائي لبيان هذهِ الدلالة، وهو قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}([24]). فقد أيد الدكتور السامرائي ما ذهب إليه الزركشي (ت 794هـ) في تعليقة على استعمال مفردة (سُجُود) بدلاً من (سُجَّد). إذ يقول: ((هلا قيل (السُّجَّد) كما قيل (الرُّكَّع) وكما جاء في آية {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} ([25])، والركوع قبل السجود... والجواب: أن السجود يطلق على وضع الجبهة بالأرض، وعلى الخشوع، فلو قال: (السُّجَّد) لم يتناول إلاّ المعنى الظاهر ومنه {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} ([26])))([27]).)([28]).
الهوامش:
([1]) الغَمْرَةُ الماء الكثير، ثم استعملت للدلالة على الشِدَّةِ والهَم. ينظر: لسان العرب (غمر): 5/29.
([2]) الغُصّة الشَّجَا الذي يُغَضُّ به. ينظر: لسان العرب (غضض): 7/60.
([3]) دَنَا الشيء، إذا قَرُب، والدنأوة القرابَةُ و القُرْبى، والأدْنون الأقربون. ينظر: لسان العرب (دنو): 14 / 271.
([4]) أَلَبَ اليك القَوْم أتوك من كل جانب، والتّألّبُ التَّجَمُّعُ. ينظر: لسان العرب (ألب): 1/6.
([5]) القَصَا النَّسَبُ البعيد، والأَقْصَون الأَبْعَدُون. ينظر: تاج العروس (ألب): 39/5.
([6]) نهج البلاغة: خ / 194: 385.
([7]) ينظر: لسان العرب (خلع): 13/180، وشرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد): 10/129.
([8]) ينظر: لسان العرب (ضرب): 1/545.
([9]) نفسه.
([10]) ينظر: شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد): 10/129.
([11]) ينظر: لسان العرب (ضرب): 1/545.
([12]) ينظر: النهاية في غريب الحديث: 2/209.
([13]) ينظر: شرح نهج البلاغة (البحراني): 3/737.
([14]) ينظر: النهاية في غريب الحديث: 2/209 و 2 / 259.
([15]) نفسه: 2/ 209.
([16]) ينظر: النهاية في غريب الحديث: 2/209، وتاج العروس(رحل): 29/58.
([17]) ينظر: تهذيب اللغة (رحل): 5/6، وتاج العروس (رحل): 29/58.
([18]) أقصد الكثرة في العدد، وهو ما يفيده هذا البناء من أبنية جمع التكثير. ينظر: معاني الابنية: 156.
([19]) ينظر: معاني الأبنية: 156.
([20]) نفسه.
([21]) نفسه: 153.
([22]) نفسه: 155.
([23]) ينظر: معاني الأبنية: 153، 154.
([24]) البقرة / 125.
([25]) الفتح /29.
([26]) الفتح /29.
([27]) البرهان في علوم القرآن، للزركشي: 3/250، 251، ومعاني الأبنية: 152،153.
([28])لمزيد من الاطلاع ينظر: ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة: للدكتور حسام عدنان رحيم الياسري، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 146-150.