بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
أَدْحَضُ مَسْئُولٍ حُجَّةً، وأَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَةً، لَقَدْ أَبْرَحَ جَهَالَةً بِنَفْسِه.
يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ، مَا جَرَّأَكَ عَلَى ذَنْبِكَ، ومَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ومَا أَنَّسَكَ بِهَلَكَةِ نَفْسِكَ؟ - إلى أن يقول (عليه السلام): - وحَقّاً أَقُولُ! مَا الدُّنْيَا غَرَّتْكَ، ولَكِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ، ولَقَدْ كَاشَفَتْكَ الْعِظَاتِ وآذَنَتْكَ عَلَى سَوَاءٍ ، ولَهِيَ بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِجِسْمِكَ، والنَّقْصِ فِي قُوَّتِكَ أَصْدَقُ وأَوْفَى مِنْ أَنْ تَكْذِبَكَ، أَوْ تَغُرَّكَ، ولَرُبَّ نَاصِحٍ لَهَا عِنْدَكَ مُتَّهَمٌ، وصَادِقٍ مِنْ خَبَرِهَا مُكَذَّبٌ، ولَئِنْ تَعَرَّفْتَهَا فِي الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ والرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ، لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْكِيرِكَ، وبَلَاغِ مَوْعِظَتِكَ، بِمَحَلَّةِ الشَّفِيقِ عَلَيْكَ، والشَّحِيحِ بِكَ! ولَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَاراً، ومَحَلُّ مَنْ لَمْ يُوَطِّنْهَا مَحَلاًّ! وإِنَّ السُّعَدَاءَ بِالدُّنْيَا غَداً هُمُ الْهَارِبُونَ مِنْهَا الْيَوْمَ ...([2])
شرح الألفاظ الغريبة:
دَحَضَتِ الحجة: - كمنع - بَطَلَت: أبرح جهالة بنفسه: أي أعجبته نفسه بجهالتها؛ كاشَفَتْكَ العظات: - بالنصب على نزع الخافض - أي أظهرت لك العظات أي المواعظ؛ آذنتك: أعلمتك على عدل؛ ربّ ناصح لها عندك مُتّهم: ربّ حادث من حوادثها يلقي إليك النصيحة بالعبرة فتّتهمه وهو مخلص؛ تعرَّفتها: طلبت معرفتها وعاقبة الركون إليها؛ الشحيح بك: البخيل بك على الشقاء والهلكة؛ وطنه: -بالتشديد - اتخذه وطناً([3]).
الشرح:
قوله: «أدحض»: خبر مبتدأ محذوف والتقدير الإنسان عند سؤال ربّه له ما غرّك بربّك الكريم أدحض مسؤول حجّة، وأشدّه انقطاعاً في عذره، ومبالغته في تجهيل نفسه: كثرة إمهالها في متابعة هواها وتركها عن الإصلاح، والمنصوبات الثلاثة مميزات.
وقوله : «يا أيّها الإنسان ...» إلى قوله : «بهلكة نفسك»: استفهامات عن أسباب جرأته على الذنوب وأسباب غرته بربه وغفلته عن شدة بأسه وعن أسباب أنسه بهلكة نفسه بتوريطها في المعاصي معها استفهاماً على سبيل التقريع والتوبيخ، ويحتمل أن يكون قوله: ما آنسك تعجّباً، وكذلك الاستفهام عن بلوله من داء الجهل ويقظته من نوم الغفلة ورحمته لنفسه كما يرحم غيرها إلا أن الاستفهامات الثلاثة الأولى يطلب فيها تصوّر تلك الأسباب وفهم حقيقتها على سبيل تجاهل العارف، وفي هذه الثلاثة الأخيرة يطلب فيها التصديق.
وقوله: «وحقّاً أقول: ما الدنيا غرّتك ولكن بها اغتررت»: تقدير منع لما عساه أن يجيب به الناس سؤاله تعالى إياهم بقوله: «ما غرّك بربك»، وهو كثير في كلامهم: إن الدنيا هي الغارة، وكما نسب القرآن الكريم إليها ذلك بقوله: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيا}([4]) وكلامه عليه السلام حق من وجهين:
أحدهما: أن الاستغرار من لواحق العقل وليست الدنيا لها العقل.
والثاني: أنها لم تخلق لأن يستغرّ بها .
إذ كان مقصد العناية الإلهية بوجود الإنسان فيها فلا يجوز أن ينسب إليها الاستغرار حقيقة لكن لما كانت سبباً مادياً للاغترار بها جاز أن ينسب إليها الاستغرار مجازاً، وصدق قوله: «ولكن بها اغتررت».
وقوله: «ولقد كاشفتك العظات: تقرير لمنع نسبة الاستغرار إليها بنسبة ضدّه إليها وهو النصيحة له بما كاشفته بالمواعظ وهي محال الاتعاظ من تصاريفها وعبرها، وبمجاهرتها وإعلامها على عدل منها، إذ خلقت لذلك التغيير والإعلام وعلى ذلك التصريف ولم يمكن أن يكون إلا كذلك فلم يكن تصاريفها بك جوراً عليك.
وقوله: «ولهي بما تعدك..» إلى قوله: «تغرّك»: زيادة تأكيد لنصيحتها وتخويف منها، واستعار لفظ الوعد لإشعارها في تغييراتها بما يتوقع من مصائبها كما أن الوعد إشعار بإعطاء مطلوب، واستعمل الوعد في مكان الوعيد مجازاً إطلاقاً لاسم أحد الضدين على الآخر كتسمية السيئة جزاء، وكذلك استعار لها لفظ الصدق والوفاء ملاحظة لشبهها بالصادق الوفيّ في أنه لابد من إيقاع ما وعد به.
وقوله: «أصدق وأوفى» مع قوله: «من أن تَكذِبَكَ أو تغرّك»: من باب اللفّ والنشر وفيه المقابلة.
وقوله: «ولربّ..» إلى قوله: «مكذّب»: تقرير لبعض لوازم الغفلة عليه وهي تهمته للمناصح منها وتكذيبه لصادق خبرها، وأطلق لفظ التهمة والتكذيب مجازاً في عدم الالتفات إلى نصيحتها بتصاريفها وما يعلم من صادق تغيراتها وعدم اعتبار ذلك منها إطلاقاً لاسم ذي الغاية على غايته، وكانت غاية التهمة والتكذيب عدم الالتفات إلى المتهم والمكذب والإعراض عنها.
وقوله: «ولئن تعرّفتها..» إلى قوله: «الشحيح بك»: صورة احتجاج نبّه فيه على صدقها في نصيحتها كي تستنصح ولا تتهم، وهو بقياس شرطي متصل؛ وتقريره ولئن تعرّفتها: أي طلبت معرفة حالها في نصيحتها وغشها من الديار الخاوية والربوع الخالية للأمم السالفة والقرون الماضية لتعرفتها بمنزلة الشفيق عليك والشحيح بك. ووجه شبهها بذلك حسن تذكرها لك وبلاغ مواعظتك وعبرتك منها كما أن الناصح الشفيق عليك، وبيان الملازمة بحال الوجدان بعد تعرفها، والاستثناء في هذه المتصلة لعين المقدم لينتج عين التالي.
وقوله: «ولنعم..» إلى قوله: «محلّاً»: مدح للدنيا باعتبار استعمالها على الوجه المقصود بالعناية الالهيّة وهو الاعتبار بها دون الرضا بها لذاتها واتخاذها وطناً ودار إقامة، واسم نعم هو «دار من لم يرض»، والمخصوص بالمدح هو الدنيا، وداراً ومحلاً منصوبان على التمييز يقومان مقام اسم الجنس الذي هو اسم نعم إذا حذف، وهاهنا مسئلتان:
إحديهما: أنّ اسم الجنس الذي هو اسم نعم وبئس تضاف في العادة إلى ما فيه الألف واللام كقولك: نعم صاحب القوم، وقد أضافه هاهنا إلى ما ليس فيه الألف واللام، وقد جاء مثله في الشعر كقوله: فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم.
الثانية: أنه جمع بين اسم الجنس والنكرة التي تبدل منه، وقد جاء مثله في قوله: فنعم الزاد زاد أبيك زاداً، وإنما أضاف داراً إلى من لم يرض بها، ومحلاً إلى من لم يوطنها؛ لأن الدنيا إنما تكون داراً ممدوحة باعتبار كونها دار من لم يرض بها ولم يوطنها لاستلزام عدم رضاهم بها الانتفاع بالعبر بها واتخاذ زاد التقوى، وأولئك هم المتقون السعداء بها. ويحتمل أن يكون داراً ومحلاً منصوبين على التمييز عن قوله: لم يرض بها ولم يوطنها.
وقول : «وإن السعداء بالدنيا غداً هم الهاربون منها اليوم»: فوجه سعادتهم بها استثمارهم للكمالات المسعدة في الآخرة منها، ولن يحصل ذلك إلا بالهرب منها اليوم
وكنى بالهرب منها عن الإعراض الحقيقي عن لذاتها، والتباعد من اقتنائها ولذاتها لاستلزام الهرب عن الشيء التباعد عنه والزهد فيه، وظاهر أن التباعد منها بالقلوب إلا ما دعت الضرورة إليه واتخاذها مع ذلك سبباً إلى الآخرة من أسباب السعادة ومستلزماتها كما أشار إليه سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) من حاله فيها بقوله : ما أنا والدنيا إنما مثلي فيها كمثل راكب سار في يوم صائف فرفعت له شجرة فنزل فقعد في ظلها ساعة ثم راح وتركها([5]))([6]).
الهوامش:
([1]) الإنفطار، الآية: 6.
([2]) نهج البلاغة لصبحي صالح: 344-345/ من كلام له عليه السلام رقم 223، ونهج الشيخ العطار 458 -460/ من كلام له عليه السلام رقم 222، وشرح النهج لابن ميثم 4: 74-46/ من كلام له عليه السلام رقم 214، ونهج محمد عبده 1: 476-478.
([3]) شرح الألفاظ الغريبة : ٦٦٩.
([4]) الأنعام: ۷۰ و ۱۳۰، والأعراف: 51.
([5]) انظر بحار الأنوار: 70: 68، شرح نهج البلاغة لابن ميثم 4: 77-81/ شرح كلام له عليه السلام رقم 214.
([6]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 334-339.