مَيِّتُ الأحْيَاء

مقالات وبحوث

مَيِّتُ الأحْيَاء

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 04-03-2019

مَيِّتُ الأحْيَاء

 

عمَّار حسن الخزاعي

 

الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين

 

الموت لا يعني الفناء؛ بل هو انتقال من دار إلى دار ومن عالم إلى عالمٍ آخر، وهذا الانتقال يتطلَّب انفصال الرُّوح عن الجسد، والذي يموت يفقد الحياة في هذا العالم فيبقى جُثَّة هامدة سرعان ما توارى في الأرض .

 

والموت ضد الحياة، والضدَّان لا يجتمعان على الحقيقة، ولذلك لا يمكن أن نرى إنسانًا ميِّتًا وحيًّا في الوقت نفسه، ولكنَّها اجتمعا على جهة المجاز كما في العنوان (مَيِّتُ الأحْيَاءَ)، ومن هنا نُحاول أن نتعرَّف على ماهية هذا الميِّت الذي يعيش بين الأحياء، وقد عرَّفه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) تعريفًا وافيًا شافيًا بقوله: ((وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالمِاً وَلَيْسَ بِهِ، فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّال وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلَّال، وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حبالِ غُرُور، وَقَوْلِ زُور، قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ، وَعَطَفَ الْحَقَّ عَلى أَهْوَائِهِ، يُؤْمِنُ مِنَ الْعَظَائِمِ، وَيُهَوِّنُ كَبِيرَ الْجَرَائِمِ، يَقُولُ: أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ، وَفِيهَا وَقَعَ، وَيَقُولُ: أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ، وَبَيْنَهَا اضْطَجَعَ، فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَان، وَالْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَان، لاَ يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ، وَلاَ بَابَ الْعَمَى فيَصُدَّ عَنْهُ، فَذلِكَ مَيِّتُ الأحْيَاءَ))([1]) .

 

فالميت بحسب هذا النص ليس من يفقد الحياة وينتقل إلى العالم الآخر؛ بل الميِّت من تعجَّل الموت بفناء حياته على الرَّغم من تلازم روحه وجسده، وهذا هو الخُسران المبين، أمَّا ماهية هذا المفهوم في نظر أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو العالم بالوهم والغارق بوحل الجهل، المغترُّ بحبائل قول الزور، الذي يتصدَّى للزعامة من دون أن يكون له أيّ علمٍ أو دراية؛ بل يسوق النَّاس بالجهل، ويفتيهم بالضَّلال، وكم لدينا مثل هؤلاء على مرِّ العصور، ولا نبالغ إن قُلنا إنَّنا نعيشُ الآن في ذروة انتعاشهم الجاهلي .

 

وهؤلاء هم أخطرُ فئة على المجتمع، بما يحملون من أضاليل وجهائل يعتقدون أنَّها غاية العلم وسمو المعرفة، ومن هنا نرى أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أوضح بشيء من التفصيل ماهية هؤلاء كي نعرفهم ونتجنَّبهم ونحدُّ من خطرهم، فأبان (عليه السلام) مواصفاتهم التي يمكن أن نستخلصها بهذه النقاط:

 

1.    إنَّ (مَيِّتُ الأحْيَاء) هو وصفٌ لمن يدَّعي العلم من غير دراية ولا وعي، وليس له من الأدوات سوى أضاليل وشبهات يخدع بها النَّاس .

 

2.    أمَّا مصادر هذا الذي يدَّعي العلم فهي (جَهَائِلَ مِنْ جُهَّال وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلّال)، ومن هنا نقتبس وصيَّةً لأمير المؤمنين (عليه السلام) مضمونها التَّحقق من مصادر العلم الذي يكتسبه الإنسان، وعليه أن يكون دقيقًا باختيار أساتذته ومنابع اكتسابه العلمي والمعرفي، إذ من المؤكَّد أنَّ للأستاذ تأثير بالغ على أفكار وتوجُّهات تلامذته .

 

3.    من شيمة العلماء التواضع، وكُلَّما زادت معرفة الإنسان ازداد تواضعه أمام الآخرين، أمَّا (ميِّت الأحياء) فهو مغتر بما يملك من خرافات وجهالات، فينصب للنَّاس أشراكًا بحبائل غروره؛ لأنَّه يُخرج للناس نفسه على أنّه عالم فاهم يرفع عرفه نافجًا أوداجه يتخيُّل أنَّ ذلك من سيماء العلماء، والنَّاس بلا علمٍ يسيحون في تُرهاته ويهابون اغتراره الموهوم المعتمد على قول الزور.

 

4.    من سمات (ميت الأحياء) أنَّه يؤول القرآن على وفق ما تشتهيه آرائه وأفكاره، ويلوي عنق الحقِّ بحسب ما تريده نفسه .

 

5.    ومن صفاته أيضًا أنَّه يهون الكبائر ويستصغر كبير الجرائم، وهذ بحدِّ ذاته يجعل من النَّاس يستهينون بالذنوب الكبائر فيفعلونها بدعاوي باطلة دلَّهم عليها مدَّعي العلم (ميت الأحياء) .

 

6.    يدَّعي (ميت الأحياء) بأنَّه يقف عِنْدَ الشُّبُهَاتِ، ولكنَّه فيها يقع وإليها يدعو، وكلُّ ذلك لجهله وقلة ثقافته .

 

7.    ويدَّعي كذلك الابتعاد عن البدع التي هي الأشياء الداخلة في الدين وهي ليست منه، وهذا الشخص يقع في البدع لجهله فيها، ولو كان علمًا حقيقيًّا لابتعد عنها ولعمل على ابطالها .

 

8.    أمَّا صورة هذا الإنسان فهي كما يصفها أمير المؤمنين (عليه السلام): ((فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَان، وَالْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَان))، وذلك لأنَّه لا يعقل بقلبه فيكون حاله كحال من لا يملك قلبًا عاقلًا وهذا هو الحيوان الذي لا يتمكن من معرفة باب الهدى ولا طريق الصواب .

 

ومن هنا علينا أن نضع هذه الأوصاف نصب أعيننا ونعمل جاهدين على أن لا نتَّصف بها فنكون أمواتًا في الحياة، ونستعجل فناء أجسادنا قبل ميعادها، وقتل أرواحنا قبل رحيلها، وعلينا أن نُدقِّق بمصادر أفكارنا فلا نأخذها إلَّا من المعين الصافي الذي يخلو من شوائب الضلالة والجهالة، وهكذا نحيا في حياتنا ولا نموت فيها؛ بل نموت عندما يحين رحيل الرُّوح إلى بارئها عالمة بخاتمتها غير مغترة ببدعها ولا مغرورة بأوهامها .

الهوامش:

([1]) نهج البلاغة، : ما أختاره وجمعه الشريف الرضي، ضبط نصه وابتكر فهارسه العلمية : الدكتور صبحي صالح، ط: 1، 1387 هـ - 1967 م: 119 .

المقالة السابقة المقالة التالية

Execution Time: 0.2727 Seconds