البَاحِث: سَلَام مكِّيّ خضيّر الطَّائِيّ.
الحمدُ لله ربّ العالمين، والصَّلَاة والسَّلَام على أشرف الخلق والمرسلين، أبي القاسم مُحَمَّد وآله الطَّيِّبين الطَّاهرين والغرّ الميامين المنتجبين، واللّعن الدَّائِم على أعدائِهم ومبغضيهم وغاصبي حقّهم إلى قيامِ يومِ الدِّين...
إنَّ اعجاب الفرد بنفسه وانعزاله عن النَّاس ونظرته الدّونية إلى أفراد المجتمع ويعتقد أنّه أفضل منهم لأسباب ما، كوفرة ماله مثلًا أو سكنه في مكانٍ يعتقد إنّه هذا من الأماكن الرَّاقية ويتناسى أنَّه سيرقد يومًا في حفرة لا يتجاوز عرضها أصابع عدّة...إلخ، فينتج عن تصرّفه هذا نفور المجتمع عنه وتصيبه الوحشة.
فالوحشة: الخلوة والهم[1]، وأمَّا العجب فيقال: أعجب بنفسه وبرأيه على ما لم يسم فاعله فهو معجب بفتح الجيم[2].
أي: إن من كان معجبًا بنفسه ومستبدًّا برأيه فتصرّفه هذا يؤدّي به إلى بقائه في الوحشة والهمِّ ولا أحد يقاربه ولا جليس يصاحبه، بل يرغب الجميع عن صحبته، ويبقى هو منفردًا معزولًا محزونا في خلوته، بسبب اعجابه بنفسه ونظرته أنّه أفضل من الجميع[3].
فالعجب: هو ظن كاذب بالنّفس في استحقاق مرتبة هي غير مستحقة لها، ولما كانت الوحشة مقولة بالتشكيك على ما تحتها، إذ كان من الوحشة ما هو أشد ومنها ما هو أضعف، فظهر لنا حينئذ أن تقدير القضية: العجب هو أشد درجات الوحشة وأبعدها عن الأنس، هذا ما نفهمه من قول الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام) إنَّه قال: (أوحش الوحشة العجب)[4]، فيتبيَّن لنا أيضًا مما تقدَّم من كلام أن العجب أحد أسباب الوحشة.
واعلم إنّ العجب نفسه ليس بوحشة والتّقدير على أنّه أوحش الوحشة كان العجب مسببًا لها كما تقدَّم، فأطلق لفظ العجب عليه مجازًا، إذا عرفت فنقول: أما برهان سببية العجب للوحشة فلأن المعجب بنفسه إذا اعتقد ما له على غيره من الفضل، فهو وإن أكذب نفسه فيها في بعض الأحوال، إلَّا إنّه كثيرًا ما يبعثه الالتذاذ بتصور تلك المرتبة ولوازمها وتخيل زينة نفسه بها وتميزها عن غيرها فيعبر إلى حد التّيه، فيتيه ويتجبّر على غيره من الناس ويستنقص منهم، لتصوره بأنَّه أعلى منهم مرتبة، فكيف لا يكون ذلك سبَبًا لتنفّر طباع الخلق وابتعادهم عنه ووحشتهم منه؟
فينبغي للفرد أن يتنبّه ممَّا يسنح له من سر هذه الكلمة على وجوب ترك العجب والاجتهاد في حسمه إذ كان سبَبًا عظيمًا من أسباب الهلاك، وأيضًا كان سببًا من الأسباب المانعة من استعدادا النّفس لكمالاتها المسعدة وكل ما كان كذلك كان واجب التّرك ينتج من الشكل الأَوَّل أن العجب واجب التّرك[5].
فإنَّ المعجب بنفسه يرى أنه قد بلغ أعلى المراتب وأصبح في القمة، فكيف يبتغي المزيد ولا شيء يفسد العلم والعقل والدّين كالعجب؟ إنّ المعجب بنفسه لا نظير له بين الخلائق حماقة وسخفًا[6].
وفي ختام هذا الكلام المختصر عن الوحشة والعجب، قد فهمنا وعرفنا أنّ وحشة الفرد وانعزاله عن المجتمع كان سببه عجبه بنفسه وهذا العجب قد يكون ناتجًا عن ضعف إيمان الفرد بالله تعالى ورسوله (صلَّى الله تعالى عليه وآله) وبآل بيته الأطهار (عليهم الصَّلَاة والسَّلَام)، فنسأل الله سبحانه بمُحَمَّد وآله الأطهار (عليه وعليهم الصَّلَاة والسَّلَام) أن لا يجعلنا من الذين يحسبون أن أعمالهم أفضل من غيرهم ويعجبون بها، ممَّا يؤدِّي هذا الأمر إلى الانفراد والانعزال عن النَّاس، ونسأله تعالى أن يُصلِّيَ على مُحَمَّد وآله الأطهار، واللّعنة الدَّائمة على أعدائِهم من الأَوَّلين والآخرين ما بقيت وبقي اللَّيل والنَّهار، إلى قيامِ يوم الدِّين إنَّه سميعٌ مُجيب...
الهوامش:
[1] لسان العرب، ابن منظور: 6/368.
[2] مختار الصّحاح، مُحمَّد بن أبي بكر الرَّازيّ: 218.
[3] ينظر: شرح كلمات أمير المؤمنين عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام)، عبد الوهاب: 58.
[4] الأنوار العلويَّة، الشَّيخ جعفر النّقديّ: 490.
[5] ينظر: شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين (عليه السَّلَام)، ابن ميثم البحراني: 130-132.
[6] ينظر: في ظلال نهج البلاغة، مُحَمَّد جواد مغنيَّة: 4/325.