مِن عليِّ الكلام

مقالات وبحوث

مِن عليِّ الكلام

8K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 14-12-2019

خُطَى الخُزَاعي
بين سبق وتأخر لعقل ولسان، كان الناس صنفين، هذا ما أضاءه أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) بمقولته: ((لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِه، وقَلْبُ الأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِه))([1])، فصنف قد قدَّم قلبه أي عقله على لسانه مقوِّمًا له ومهذبًا إياه من الشطط والفلتات، ومصيِّرًا منطقه سديدًا نافعًا فكان عاقلًا، وآخر قد أخَّر عقله وراء لسانه فجعل من عقله تابعًا لسطوة لسان متمرد جامح، فكان أحمقًا، فيعقِّب الشريف الرضي (رحمه الله) على كلام المولى  (صلوات الله عليه) بعد نقله بقوله: ((وهذا من المعاني العجيبة الشريفة، والمراد به أنَّ العاقل لا يطلق لسانه إلَّا بعد مشاورة الروية ومؤامرة الفكرة، والأحمق تسبق حذفات لسانه وفلتات كلامه مراجعة فكره ومماخضة رأيه، فكأنَّ لسان العاقل تابع لقلبه، وكأنَّ قلب الأحمق تابع للسانه))([2])، وقد أورد (صلوات الله عليه) هذا المعنى بتركيبة أُخرى إذ قال: ((قَلْبُ الأَحْمَقِ فِي فِيه، ولِسَانُ الْعَاقِلِ فِي قَلْبِه))([3])، مبينًا (صلوات الله عليه) بكناية لطيفة عن الاستحواذ أو السطوة المعنوية للسان في محله على العقل، وللعقل في محله على اللسان، فأمَّا الأحمق إنَّما يكون المستحوذ فيه اللسان على القلب وكأنَّه يجرُّه إلى حيث محله وسطوته، فيعطله ويباشر الأُمور دونه، والسطوة في العاقل تكون للعقل على اللسان فيأخذه إلى حيث محله مروِّضًا إياه ومقوِّمًا له، حتى يتصدَّى للأمور بروية وتفكر، فكأنَّ من يتكلَّم عن العاقل عقله ومن يفكر عن الأحمق لسانه.
فأراد (صلوات الله وسلامه عليه) التنبيه إلى أهمية دور العقل بوصفه قيِّم ومقوِّم، على اللسان وما سواه، موجِّهًا إلى خطورة تسليم زمام الأمر إلى لسان غير منضبط بضابط،  وتداعيات ذلك من انتهاكات وتعديات قد تودي بصاحبها إلى حيث الهلكة والخسران.
وقد أورد أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في نهجه الشريف بعضًا من الوصايا التي تحدُّ من غائلة اللسان وتضبط من انفلاته مدعِّمًا جانب الحكمة والعقل فيها، منها قوله (عليه السلام): ((الْكَلاَمُ فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، فَإذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ، فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ، فَرُبَّ كَلِمَة سَلَبَتْ نِعْمَةً وَجَلَبَتْ نِقْمَةً))([4])، وكذلك: ((إِذَا تَمَّ الْعَقْلُ نَقَصَ الْكَلاَمُ))([5])، وأيضًا: ((لاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ، بَلْ لاَ تَقُلْ كُلَّ مَا تَعْلَمُ، فَإِنَّ اللهَ سبحانه قد فَرَضَ عَلَى جَوَارِحِكَ كُلِّهَا فَرَائِضَ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))([6])، وإنَّ حفظ المرء للسانه عمَّا لا ينبغي الخوض فيه من الأُمور بدا كذلك واضحًا في كمٍّ من توصيات الموروث الروائي الشريف، كما وقد ربطت بعض الروايات صفة حفظ اللسان بالعقل، وكأنَّ أول حكم للعقل على اللسان هو ترويضه وإمساكه عمَّا لا فائدة فيه من لغو أو ما فيه ضرر من ظلم وتعدٍّ،  فعن أبي عبد الله الصادق (صلوات الله عليه) قال: ((في حكمة آل داود: على العاقل أن يكون عارفًا بزمانه، مقبلًا على شأنه، حافظًا للسانه))([7])، وأيضًا عن الإمام أبي الحسن الرضا (صلوات الله عليه) قوله: ((من علامات الفقه: الحلم والعلم والصمت، إنَّ الصمت باب من أبواب الحكمة، إنَّ الصمت يكسب المحبة، إنه دليل على كل خير))([8])، وأيضًا ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مبالغة وتوكيد في وصيته لسائل مسترشد عندما قال له: ((يا رسول الله أوصني فقال: احفظ لسانك، قال: يا رسول الله أوصني، قال: احفظ لسانك، قال: يا رسول الله أوصني، قال: احفظ لسانك، ويحك وهل يكبُّ الناس على مناخرهم في النار إلَّا حصائد ألسنتهم))([9]).
 ومن هذا قد استبان أنَّ إمساك اللسان عن الكلام إنَّما يكون من علامات العاقل، ومن شأن العقل في خصوص ما فيه ضرر من تدليس أو بث إشاعة أو حبك شبهة أو تسقيط أو ما لا فائدة منه من اللغو وفارغ الكلام، لا مطلقًا، فإذا ما تم َّ ضبط اللسان وتهذيبه على وفق مقاييس العقل فستتجلّى له شؤون لا غنى للفرد والمجتمع عنها، فعن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): ((تَكَلَّمُوا تُعْرَفُوا، فَإِنَّ الْمَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ))([10])، فشأنه هنا أشبه ببطاقة تعريفية تنبئ عن عقل المتكلم ولياقاته ومؤهلاته، وقوله أيضًا: ((رُبَّ قَوْل أَنْفَذُ مِنْ صَوْل))([11])، فقد يرتقي الكلام مرتقىً يجعل له من الأثر والوقع ما لا تحدثه سطوة أو منازلة.
ولا يختلف اثنان في أنَّ الممول للفتن والمُمد لاختلافات الناس هو اللسان المنسلخ عن حاكمية العقل، إلى حاكمية أخرى قوامها الأهواء والمآرب، فيَضِل ويُضِل منبئًا عن حمق وجهالة، وقد ورد في الأثر الشريف للإمام الجواد عن آبائه (صلوات الله عليهم): ((لو سكت الجاهل ما اختلف الناس))([12])، وقد حمَّلوا الناس واجب الرجوع إلى من يحل ما أبرمه الجهال من عقد الاختلاف في زمن الشبهات فقال (صلوات الله عليه): ((اقصد العلماء للمحجة الممسك عند الشبهة، والجدل يورث الرياء ومن أخطأ وجوه المطالب خذلته الحيل))([13]).
وختام الكلام من عليِّ الكلام مقولةً أجملت ما تقدَّم من بيان، حين قال (صلوات الله وسلامه عليه): ((كَانَ لِي فِيمَا مَضَى أَخٌ فِي اللَّه، وكَانَ يُعْظِمُه فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِه ... وكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِه صَامِتاً، فَإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ ونَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ، وكَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاً، فَإِنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَ لَيْثُ غَابٍ وصِلُّ وَادٍ، لَا يُدْلِي بِحُجَّةٍ حَتَّى يَأْتِيَ قَاضِياً...،  وكَانَ يَقُولُ مَا يَفْعَلُ ولَا يَقُولُ مَا لَا يَفْعَلُ، وكَانَ إِذَا غُلِبَ عَلَى الْكَلَامِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى السُّكُوتِ، وكَانَ عَلَى مَا يَسْمَعُ أَحْرَصَ مِنْه عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ، وكَانَ إِذَا بَدَهَه أَمْرَانِ يَنْظُرُ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْهَوَى، فَيُخَالِفُه فَعَلَيْكُمْ بِهَذِه الْخَلَائِقِ فَالْزَمُوهَا وتَنَافَسُوا فِيهَا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوهَا، فَاعْلَمُوا أَنَّ أَخْذَ الْقَلِيلِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِ الْكَثِيرِ))([14]).
والصلاة على محمد وآله الهداة.
 الهوامش:
[1] نهج البلاغة، تحقيق (صبحي الصالح): 476.
[2] المصدر نفسه.
[3] المصدر نفسه.
[4] نهج البلاغة، تحقيق (صبحي الصالح): 543.
[5] المصدر نفسه: 480.
[6] المصدر نفسه: 544.
[7] الكافي، الشيخ الكليني (ت: 329): 2/116.
[8] الخصال، الشيخ الصدوق (ت: 381): 158.
[9] الكافي، الشيخ الكليني (ت: 329): 2/115.
[10] نهج البلاغة، تحقيق (صبحي الصالح):545.
[11] المصدر نفسه.
[12] بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت:1111): 75/81.
[13] المصدر نفسه.
[14] نهج البلاغة، تحقيق (صبحي الصالح):526.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2477 Seconds