نفسك ميزانك

مقالات وبحوث

نفسك ميزانك

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 16-07-2020

الباحث: حيدر سرحان فارس اليساري
بكالوريوس هندسة

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم والصَّلَاة والسَّلَام على أفضل الخلق أجمعين، أبي القاسم مُحَمَّدٍ وآله الطَّيِّبين الطَّاهرين...
لقد رفد أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) الإنسانية ببحر لجي من الحكم، على مرِّ العصور الماضية، نهلت واستنهلت الأجيال من عذب حكمه، ونحن نمر على هذا البحر نحاول أن نغترف منه بقدر دلونا وما عساه يبلغ.
إنَّ الظلم من أعظم الذنوب، وقد نهت الشرائع السماوية كافة عنه، ولذا فمن المهم جداً تمييز أفعالنا اتجاه الآخرين إن كانت ظالمة أم منصفه، ولعل تقييم أفعالنا من أكثر الأمور جدليه, فغالباً ما نرى أفعالنا وتصرفاتنا اتجاه غيرنا صواباً, من دون أن يكون لنا ميزان صحيح يزن تصرفاتنا ويقيم أفعالنا, فيقع منا كثير من الظلم ونحن في غفلة.
ولعل هذا الجزء من وصية أمير المؤمنين لابنه الحَسَن (عليهما السَّلَام) التي كتبها له بحاضرين ((يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، واكْرَه لَه مَا تَكْرَه لَهَا، ولَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، واسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُه مِنْ غَيْرِكَ، وارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاه لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ))[1]، وهذا النصُّ يعدُّ في مفاصله لقاحًا لداء الظّلم.
فقد شيد (عليه السَّلَام) قاعدة في الفاعل نفسه لاستشراق الفعل إن كان منصفاً للآخرين أم ظالماً لهم، قبل أن يقدم الفاعل على الفعل فيوقف الظلم قبل حصوله.
إنَّ جعل النفس ميزان عبر وضع نفسك مكان متلقي فعلك؛ بحيث تستشعر بشكل منصف تأثيرات الفعل المادية والمعنوية على نفسك, فإن قبلتها وتحملتها وأحببتها فهو تصريح بأنَّ الفعل خالٍ من الظلم فلا مانع من تحقق الفعل في الخارج. أما إن لم تتقبل نفسك أو لم تتحمل أو كرهت تأثيرات ذلك الفعل فهذا يدل على عدم تقبل الآخرين لفعلك فالميزان يصرح بظلم الفعل فالامتناع واجب .
إن استعمال الأمام علي (عليه السَّلَام) للنفس بوصفها ميزانًا جاء على خطى القرآن الكريم، فقد قارن سبحانه بين سلوك الإنسان اتجاه نفسه وسلوكه اتجاه الآخرين فقال سبحانه: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾[2].
فقد توعد سبحانه وتعالى الذين يزنون بميزانين ميزان عادل لأنفسهم، وآخر مخسر للآخرين رافضاً الازدواجية في المعاير؛ لأنها تثمر ظلماً للعباد.
وهذا المبدأ أشارت إليه السنه النبوية في قول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله الطَّيِّبين الطَّاهرين): (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)[3]، فجعل (صلَّى الله عليه وآله) شرط الإيمان أن يكون الميزان واحد فيما تحب لنفسك وفيما تحب لأخيك.
ولذا استعمل الإمام علي (عليه السَّلَام) النفس في هذا الميزان؛ لما للنفس من خصائص, فالنفس مجبوله على معرفة الخير والشر، قال تعالى: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾[4]، ولا يستطيع الأنسان أن يكذب نفسه قال تعالى ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾[5].
ثم إنَّ النفس الصالحة قادرة على ردع الإنسان عن كل باطل وظلم، قال سبحانه: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾[6]، فهذه النفس تلوم صاحبها على ركوب المعاصي فتمنعه من المعصيَّة.
فالنفس التي تعيش في ذواتنا, تميز الخير من الشر, ليمكن لنا أن ندحض تقيمها لأعمالنا فيما لو قبلت بالسوء وهي قادرة على منعنا من المعاصي، ولن يكون هناك ما هو أفضل منها لتكون ميزانًا لأعمالنا فيما لو كانت تقية منصفة .
وهكذا يتمكن الإنسان من تحديد ما يفعل وما لا يفعل من غير ظلم عبر تقييم نفسي آني للفعل و بشكل منصف ودقيق، إنَّ هذا الميزان بموازاة تعلم الأحكام والتشريعات الدينية والتمسك بهما, ذلك لأنَّه يمكِّن الإنسان من نهج طريق قويم يضمن له الخروج من دائرة الدنيا بأقل ظلم للعباد وأوفر زاد للمعاد.
عصمنا الله وإيَّاكم من الظّلم والعدوان، وعجَّل فرج الإمام المهديّ المُنتظر (عليه السَّلَام)، الذي يملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعدما مُلئت ظلماً وجوراً...

الهوامش:
[1] - نهج البلاغة، الوصية 31، من وصيّةٍ له (عليه السَّلَام) لولده الإمام الحَسَن (عليه السَّلَام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صِفّين، تحقيق الدّكتور: صبحي الصَّالح: 397.
[2] - سورة المطففين: 1 – 3.
[3] - صحيح البخاري: 1 / 1 / 12.
[4] - القيامة: 14.
[5] - النمل: 14.
[6] - القيامة: 2.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2683 Seconds