بقلم: السيد نبيل الحسني
يركز علماء النفس الاجتماعي في دراساتهم وأبحاثهم على أهمية الاتجاهات في كونها دوافع للسلوك، ولا شك أن الدافع النفسـي مرهون بالمشاعر الانفعالية والتقييمات الإيجابية أو السلبية ومن ثم يتحدد الاتجاه نحو هذه المعايير.
وحيث أن التنشئة الاجتماعية وما يرد على الإنسان من ثقافة ومعطيات فكرية تُكَوّن لديه اتجاهاً وعقيدة نحو أمرٍ ما؛ ومن ثم فإن الإحاطة بمعرفة الاتجاهات النفسية تمكن الباحث من تحديد السبل في تغيير سلوك الإنسان، وتبين له أهميتها في تحقيق الأهداف.
(والاتجاهات عموماً تضفي على حياة الفرد اليومية معنى ودلالة حين يتفق سلوكه مع اتجاهاته ويشبع هذا السلوك تلك الاتجاهات.
ولذلك تعمل اتجاهاتنا النفسية على إشباع كثير من الدوافع والحاجات النفسية والاجتماعية، ومن هذه الحاجات، الحاجة إلى التقدير الاجتماعي، والقبول الاجتماعي، والحاجة إلى الانتماء إلى جماعة معينّة، والحاجة إلى المشاركة الوجدانية.
وهنا يتقبل الفرد قيم الجماعة ومعاييرها، والفرد يرغب دائماً في الانتماء إلى جماعة حتى المجرمين يميلون إلى الانتماء إلى جماعات إجرامية، ويلزم أن يقبل الفرد اتجاهات الجماعة التي يريد الانتماء إليها، بل إنّه يكتسب نفس الألفاظ والشعارات التي تستخدمها الجماعة، فالحاجة إلى الانتماء من الحاجات الأساسية في الإنسان)[1].
وقد أختلف علماء النفس حول تعريف مصطلح الاتجاه تعريفاً جامعاً مانعاً وذلك (أن مفهوم الاتجاه من أكثر المفاهيم المستخدمة في العلوم الإنسانية والاجتماعية غموضاً، ولقد تعددت التعريفات والاستخدامات في ميادين شتى حتى أنه لا يوجد اتفاق عام على تعريف الاتجاه)[2].
إلاّ أن الذي يهون الأمر بنسبه ما هو أن المشتغلين بالعلوم النفسية قد توصلوا إلى شبه اتفاق حول تعريف هذا المصطلح، وهو:
(أن الاتجاه هو ميل مؤيد أو مناهض إزاء موضوع من الموضوعات المعنية كالأشخاص والفئات الاجتماعية والأشياء المادية)[3].
وبناءاً عليه: فإن خطاب العقيلة زينب (عليها السلام) قد تمكن وعَبْرَ تلك الأدوات التي اشتمل عليها هذا الخطاب من تغيير البنية الفكرية وإصلاحها وتغيير اتجاهها من الميل والمآزرة لبني أمية ومشـروع السقيفة إلى الادراك بأن الإسلام الحقيقي محصور في الثقلين (كتاب الله وعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)[4]؛ ومن ثم فإنهم قد خُدعوا وغُرّر بهم وأضاعوا دينهم ودنياهم وآخرتهم حينما قدموا على هذه الجريمة والمصيبة مما عظّم لديهم الشعور بالبغض لآل بني أمية ومن جاء بهم إلى كرسي الخلافة والإمارة، مما دفعهم إلى السير باتجاهين:
1 ــ الانتقام ممن غرر بهم وساقهم إلى هذه التهلكة والخسارة العظيمة.
2 ــ إظهار كل ما من شأنه أن يحقق لهم التوبة وإحراز رضا العترة النبوية (عليهم السلام) فبرضاهم رضا الله تعالى.
ومن ثم يتحقق لدى العقيلة زينب عليها السلام ومن قبلها سيد الشهداء عليه السلام في مشروعه الإصلاحي لأمة جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ما أرادا، ومما يدل على تحقيق هذه النتيجة هو مجموعة من الحوادث التي بدأت ككرة الثلج تتجه نحو الإصلاح والانقلاب على الظلم وأشياعه؛ ولأن الفساد كان كبيراً، ولأن الخراب كان عظيماً، فقد احتاجت النتائج في ظهورها وقتاً ليس بالقصير مما أوهم البعض بأن خطاب العقيلة، وخروج سيد الشهداء عليهما السلام وتضحيته العظيمة بما شهدته كربلاء لم يكونا قد حققا أهدافهما وهذا يكشف عن الجهل أو التضليل أو التدليس للحقائق أو المكابرة، وكل ذلك لا يغير من الواقع شيئاً.
فاليوم أتباع آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأشياعهم ملئوا الأرض، فضلاً عن تأثر الفكر الإنساني عموماً بهذه القضية، وانجذابهم إلى أهدافها، وتعاطفهم مع تضحياتها مما جعلها مدرسة ينهل منها أهل الفكر والعلم وعشاق الحرية والكرامة والعزة.
ولعل الرجوع إلى خطاب العقيلة زينب عليها السلام وما تبعه من ظهور (الاستجابة المسيطرة) لدى الناس وتغير اتجاههم نحو العترة لخير ما نستدل به على ثبوت هذه الحقيقة، لا سيما التغيير العام في سلوك أهل الكوفة
وذلك لكونه أول الشواهد ظهوراً في تحقيق الاستجابة المسيطرة في المجتمع الكوفي بعد خطاب العقيلة زينب (عليها السلام) لاسيما أولئك الذين تجمعوا للاستماع إلى خطابها.
أما من حقت عليه كلمة العذاب فلا تنفعه المواعظ ولا الإنذار ولذلك تفيد الرواية التاريخية بأن أهل الكوفة أصبحوا بعد سماعهم لخطاب العقيلة بكيفية تكشف عن العودة إلى الذات والبحث عن السبل التي تمكنهم من تصحيح المسير والاتجاه، وفي ذلك يقول الراوي لخطبة العقيلة زينب عليها السلام والشاهد على حال أهل الكوفة بعد سماعهم لخطبتها عليها السلام:
(فرأيت الناس حيارى قد ردوا أيديهم في أفواههم، فالتفت إلى شيخ في جانبي يبكي وقد اخضلت لحيته بالبكاء، ويده مرفوعة إلى السماء، وهو يقول:
صَدَقْتِ بأبي وأمي، كهولهم خير الكهول، ونساؤهم خير نساء، وشبابهم خير شباب، ونسلهم نسل كريم، وفضلهم فضل عظيم، ثم أنشد:
كهولكم خير الكهول ونسلهم ونسلكم
إذا عد نسل لا يبور ولا يخزى([5])([6])
الهوامش:
[1] علم النفس الاجتماعي والحياة المعاصرة، د . أحمد الكندري: ص 289.
[2] المدخل إلى علم النفس الاجتماعي لعكاشة: ص 119.
[3] المصدر السابق
[4] صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام): ج2، ص362، ط عيسى الحلبي.
([5]) بلاغات النساء لابن طيفور: ص24؛ الأمالي للمفيد: ص324؛ الأمالي للطوسي: ص93؛ الاحتجاج للطبرسي: ج2، ص31؛ التذكرة الحمدونية لابن حمدون: ج6، ص266؛ تاريخ الكوفة للسيد البراقي: ص295؛ البحار: ج45، ص164.
[6])) لمزيد من الاطلاع ينظر: دور الخطاب الديني في تغيير البنية الفكرية بين الاصلاح والإفساد للسيد نبيل الحسني: ص190-202