عمَّار حسن الخزاعي
السيدة زينب؛ هي بنت علي بن أبي طالبٍ (عليهما السلام)، أُمُّها فاطمة بنت محمَّد (صلى الله عليه وآله)، مُزجت فيها النبوَّة والإمامة فكانت ساحة قدسٍ تعللت فيها الأسباب؛ لتكون مشروعًا إلهيًّا بمصافِّ الأنبياء، لقد احتوت هذه الشخصيَّة على ملامح شتَّى تمازجت فيما بينها فأنتجت خليطًا يتعذَّر أن يأتي مثله، إنَّها عقيلة بني هاشم، وإحدى سيدات البيت العلوي، بدأ الإعداد لها مذ كان الأمر الإلهي ((زوج النور من النور))([1])، فكانت نتاج خليط النبوَّة والوصاية، وما إن اكتسح نورها عالم الدُّنيا حتَّى عمَّ السرور البيت النبوي، وكأنَّهم في انتظارٍ لها، فبادرت السيدة فاطمة (عليها السلام) بها إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ليسمِّيها، فتلقَّفها بفرحٍ وسور منطلقًا بها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) طالبًا منه أن يسمِّيها، والرسول لا يسبق ربَّه، فجاءه النداء سمِّها زينب([2]) . وهذا الاسم يحمل دلالة لغوية معناها: ((شجرٌ حَسن المنظر طيب الرَّائِحَة))([3]) . وكانت ولادتها في المدينة المنورة في الخامس من جمادى الأولى، من العام الخامس للهجرة النبويَّة([4])، وقد لُقِّبت هذه السيدة الطاهرة بألقابٍ كثيرةٍ تدلُّ على رفعتها وسموِّ شخصها وعلوِّ منزلتها، ومن تلك الألقاب: عقيلة بني هاشم، والعالمة غير المعلَّمة، والعارفة، والموثّقة، والفاضلة، والكاملة، وعابدة آل علي، وعقيلة النساء، وشريكة الشهداء، والبليغة، والفصيحة([5]).
ثمَّ ما فتئت أن أينعت في البيت النبوي تتجذَّر فيها أسمى معادن الأخلاق تحت رعاية أمير المؤمنين والزهراء والحسنين (عليهم السلام) حتَّى غدت من سيدات النساء، وكانت مثلًا في العفَّة والحجاب فلم ير شخصها قبل يوم الطَّف أقرب جيرانها، وقد نقل عن يحيى المازني أنَّه قال: ((كنت جوار أمير المؤمنين (عليه السلام) مدة مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فو الله ما رأيت لها شخصًا، ولا سمعت لها صوتًا))([6]) . وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة قبر جدها رسول الله (صلى الله عليه وآله) تخرج ليلًا والحسن عن يمينها، والحسين عن شمالها، وأمير المؤمنين أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسن (عليه السلام) مرة عن ذلك فقال: أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب([7]) . ولعوِّ منزلتها ورد في بعض الأخبار ((أنّ الحسين (عليه السلام) كان إذا زارته زينب يقوم إجلالاً لها، وكان يجلسها في مكانه))([8]) . أمَّا من ناحية العلم والمعرفة فقد شهد لها الإمام زين العابدين (عليه السلام) بقوله: ((وأنت بحمد الله عالمة غير معلَّمة، فهمة غير مفهَّمة))([9])، وهذه الشهادة من المعصوم لها دلالات واسعة المضامين يطول شرحها؛ لأنَّ أقل ما يمكن أن تصوره إزاء هذه الشهادة المباركة أنَّ السيدة زينب (عليها السلام) كان علمها إلهيًّا تلقَّته من لدن العليم الخبير من غير واسطة، وكان جزءًا من تكوينها منذ نشأتها الأولى .
أمَّا شجاعتها فقد بلغت بها الذروة العليا فلم تسبقها سوى أمِّها، ولم يعهد لامرأةٍ أنَّها جابهت أعتى مجرمي الأرض بعلوِ همَّةٍ شبيهة بها، فكانت مثالًا للشجاعةِ نفسها، وممَّا يشير إلى ذلك ما نقلته كتب التاريخ عن مواجهتها لعبيد الله ويزيد بن معاوية (عليهما لعائن الله تعالى) بعد واقعة الطف التي استشهد بها أخوتها وأبنائها وأبناء عمومتها، ومع ذلك فقد كانت رابطة الجأش ثابتة الموقف، وقفت عند جثمان أخيها سيد الشهداء وهو مقطَّع الأوصال قائلةً: ((اللهمَّ تقبَّل منَّا هذا القربان))([10])، وعندما وقفت أمام الطاغية يزيد بن معاوية قالت له بعد أن أبدى فخره وشماتته بآل النبي (صلى الله عليه وآله) قائلةً: ((أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسراء أنَّ بنا على الله هوانًا وبك على الله كرامة، فشمخت بأنفك... فمهلًا مهلًا نسيت قوله تعالى (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [آل عمران: 178]... اللهمَّ خذ بحقنا وانتقم لنا من ظالمنا، فما فريت الا جلدك ولا حززت إلا لحمك، بئس للظالمين بدلا، وما ربُّك بظلَّامٍ للعبيد فإلى الله المشتكى وعليه المتكل، فو الله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا))([11]). وإلى جانب هذه الشجاعة وقوَّة البأس جمعت السيدة زينب (عليها السلام) بلاغةً وفصاحةً منقطعة النظير، وكيف لا تكون كذلك وهي الفرع من إمام البيان وبديع كلّ زمان أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد شهد لها من حضر خطبتها عند عبيد الله بن زياد، وهو حذيم الأسدي بقوله: ((فلم أر والله خفرة أنطق منها، كأنها تنطق وتفرغ عن لسان أمير المؤمنين عليه السلام))([12])، وقد بلغ تأثير خطبتها في أهل الكوفة حدًّا خاف منه ابن زياد أن ينقلب الأمر عليه؛ لما أثرت فيهم وفي شعورهم، وقد وصف أحدهم موقف أهل الكوفة إزاء خطبتها بقوله: ((فو الله؛ لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون وقد وضعوا أيديهم في أفواههم، ورأيت شيخًا واقفًا إلى جنبي يبكي حتَّى اخضلت لحيته وهو يقول: بأبي أنتم وأمي، كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير نسل لا يخزي ولا يبزي))([13])، وقال غيره: ((فضجَّ الناس بالبكاء، والحنين والنوح، ونشر النساء شعورهن ووضعن التراب على رؤوسهن، وخمشن وجوههن، وضربن خدودهن، ودعون بالويل والثبور، وبكى الرجال، فلم ير باكية وباك أكثر من ذلك اليوم))([14]) .
وهكذا مضت السيدة زينب (عليها السلام) بشجاعتها وصبرها وعفَّتها بعد الطف إلى يوم وفاتها شامخةً عزيزةً بدينها وحجابها، وهي إحدى مفاخر الإسلام، ومن النساء اللاتي أثَّرن بالمحتوى المعرفي والثَّقافي لعموم التراث الإنساني . نسأل الله تعالى أن يجعلنا من شيعتها ومحبِّيها في الدُّنيا والآخرة .
الهوامش:
([1]) مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب (ت: 588 هـ): 3/124 .
([2]) العقيلة والفواطم، الحاج حسين الشاكري: 11 .
([3]) تهذيب اللغة، محمد الأزهري (ت: 370هـ): 13/157 .
([4]) زينب الكبرى، الشيخ جعفر النقدي: 17- 18 .
([5]) الخصائص الزينبية، نورالدين الجزائري: 52 - 53.
([6]) الأخلاق الحسينية، جعفر البياتي: 223 .
([7]) ينظر: زينب الكبرى (عليها السلام) : 22 .
([8]) الخصائص الزينبية، نورالدين الجزائري: 48 .
([9]) الاحتجاج، الشيخ الطبرسي (ت: 548 هـ): 2/31 .
([10]) حياة الإمام الحسين (عليه السلام)، الشيخ باقر شريف القرشي: 2/301 .
([11]) مثير الأحزان، ابن نما الحلي (ت: 645 هـ): 81 .
([12]) العوالم ، الإمام الحسين (عليه السلام)، الشيخ عبد الله البحراني (ت: 1130 هـ): 369 .
([13]) لواعج الأشجان، السيد محسن الأمين (ت: 1371 هـ): 201 – 202 .
([14]) بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت: 1111 هـ): 45/112.