خُطَى الخُزَاعي
تلقّى التحفة النفيسة بشغف، وكما العادة مع كل وليد راح يُؤذن في الأُذن اليمنى بفصول تتالت بمتوالية لم تكن كما العادة، بدت وكأنَّها تحاكي فصولَ مجلد، قضت أولى دَفتيه عند أول الأذان، وعند آخر فصل من إقامة على الجهة الأخرى تهاوت الدفة الأُخرى لتعلن أنَّ فصول ذلك المجلد حكاية هدى لابدَّ أن تُقرأ بلا قيد، وأن تفهم على أكبر متسع بلا تحجيم، وما بين أذان وإقامة قرأ المولى (صلوات الله عليه) على الجبهة النوراء (حيَّ على خير العمل) عنوانًا ينبض من روح الحكاية.
ضمَّ هذا الحدث المبارك الخامس من شهر جمادى الأُولى في سادس الهجرة المباركة ([1]) مقدم ثالثة الحسنين زينب الكبرى (صلوات الله عليهم)، التي حفَّت بالاستثناء في ما عرف عنها من الشؤون، وأول الاستثناءات التي كُرِّمت بها (صلوات الله عليها) أنَّها اتصلت بالمعصوم من كل الجهات نسبًا، فرسول الله الأفضل في الجدود، وأمير المؤمنين الأفضل في الآباء بعد رسول الله، والصدِّيقة الزهراء االفضلى في الأُمهات، والحسنين الأفضلان في الأخوة (صلوات الله عليهم أجمعين)، فحظيت (صلوات الله عليها) بالنسب الفارق، والوراثة العالية، مجلِّيًا ذلك عن عناية الإله بها وأول الخلقة، لتحظى بتكوينة وراثة من أعلى أرومة في الخلق، ثمَّ تعطف بعد ذلك على تنشئة عالية على يد المعصوم حصرًا فترتسم استثنائية أُخرى، مؤداها مع فرادة الوراثة بعد ذلك باتجاه استثنائية المهمة والعطاء.
سُميت زينب بأمر من السماء وحيًا على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وممَّا جاء في ذلك من خبر أنَّها: ((لمَّا ولدت (عليها السلام): جاءت بها أُمها الزهراء إلى أبيها أمير المؤمنين (عليهما السلام)، وقالت له: سمِّ هذه المولودة، فقال (عليه السلام) ما كنت لأسبق رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان في سفر له، ولمَّا جاء النبي (صلى الله عليه وآله) وسأله عن اسمها فقال: ما كنت لأسبق ربي تعالى، فهبط جبرائيل يقرأ على النبي (صلى الله عليه وآله) السلام من الله الجليل وقال له: سمِّ هذه المولودة (زينب) فقد اختار الله لها هذا الاسم)) ([2]).
تربَّت في سنيها الخمس الأولى ترفل بنعمة وجود جدها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمها الزهراء (صلوات الله عليها)، فكانت تعي حديث الوحي وتحفظه ثم ترويه، وقد نقل أنَّها روت عن جدها أحاديثًا عدة بمحضر من أخويها الحسنين (صلوات الله عليهم) فأثنى عليها الإمام الحسن المجتبى (صلوات الله عليه) قائلًا: ((زادَكِ الله كمالًا، نعم. إنّه كما تقولين، إنّكِ حَقًّا من شجرة النبوة، ومِن معدن الرسالة)) ([3])، كما أنَّها قد روت خطبة أُمها الفدكية وهي ذات خمس منبئة عن متانة حفظ ودقة فهم، أسهما بعد ذلك في بلورة ملكتها الخطابية، وهذا ما اتضح عندما أخذت (صلوات الله عليها) دور الخطيبة؛ فصدحت بكلام قارب كلام أُمها قيمة (لفظًا ومعنىً) تحت وطأة الظرف الأصعب، حتى قالوا أنَّها كانت تفرغ عن لسان أبيها كقول أحدهم: ((ولم أرَ خفرة (عفيفة) قط أنطق منها، كأنَّها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثمَّ قال: وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدت الأنفاس، وسكتت الأصوات فخطبت فيهم..))([4]).
راق البلاء أن يكون قرين سنيها، ولأن البلاء طرديٌّ والإيمان كما بيَّنته الآثار الشريفة([5])، كان كل منهما معها في تصاعد مع الزمن، إلى أن بلغ كلاهما الذروة في كربلاء، فقدماها مجدَّدًا استثناءً في النساء بعد أمها وجدتها (صلوات الله عليهما)، إذ ورثت أدوار أهل بيتها الذين قضوا في كربلاء وهي تعالج آلام الانفجاع والسبى.
فسلام الله عليها قدر حقيقتها والحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
الهوامش:
[1])) زينب الكبرى، الشيخ جعفر النقدي: 17.
[2])) وفيات الأئمة، من علماء البحرين والقطيف: 431.
[3])) زينب الكبرى (عليها السلام) من المهد الى اللحد: 582.
[4])) الأمالي، الشيخ المفيد: 321.
[5])) منها ما ورد عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه): ((إنَّما المؤمن بمنزلة كفة الميزان، كلمَّا زيد في إيمانه زيد في بلائه))، الكافي: 2/254، ح10.